صحيحٌ أن العروبة كعروبة لم تواجه دائماً أعداءها من الدول الأجنبية الطامعة بخيرات العالم العربي مجتمعة وموحدة، ولكنها كانت على العموم منسجمة مع نفسها في بناء القدرة التنافسية فشعوب المنطقة وقادتها الجادون والمختصون حيثما كانوا برهنوا أنهم قيادات رسمية جادة أو شعبية مناضلة. لطالما ووجهت النزعة الوحدوية عند الشعوب العربية بتهمة الرومانسية أي أنها بنتُ العاطفة والخيال لا العقلانية والحسابات الدقيقة، ولأن تعزيز الرابطة القوية الجامعة للعرب منذ أيام العثمانية بل قبلها، كان خيار العرب النزعة الثأرية لا العقلانية المتبصرة، في كيفية استعادة مكانتهم التاريخية وإثبات وجودهم ككيان ذي مشروعية بين كيانات العالم القائم معظمها على أساس الوطنية أو القومية الجامعة. سواء باسم العروبة أو باسم الإسلام، رأينا العرب يتورطون في جدل عقيم يدور حول مشروعيةٍ جغرافية وتاريخية لا يسلكها بمثل هذا الوضوح إلا القليل من أمم العالم. وإذا كانت السعودية ومصر هما الدولتين الأصرح مشروعية قيادية بين دول المنطقة فإنهما ليستا وحدهما مالكتيْ هذا الامتياز. بل إنه يصعب إنكار دور مميز لأي دولة عربية سواء في آسيا أو أفريقيا. فلبنان مثلاً وهو أحد أصغر البلدان العربية يلعب منذ زمن وحتى الآن دوراً خاصاً سواء في أفريقيا أو آسيا، بل هو صاحب دور في الأميركتين الشمالية والجنوبية إن لم يكن في التجارة والاقتصاد ففي الثقافة والجامعات، بل لعلنا لا نكون مخطئين إذا قلنا إنك تجد دائماً مكاناً مميزاً يمثله عربي ما سواء في الشرق أو في الغرب وسواء في الهند أو في الصين أو الأميركتين الشمالية والجنوبية. ولكن مع ذلك يبقى واضحاً أن الهوية العربية لا تملك بعدُ ذلك الاطار المؤسساتي الذي يجعل هذه الهوية قادرة على لعب دور فاعل سواء في حياة الأمة أو على الصعيد الأممي العالمي، ولايمكن القول إن العروبة تمأسست بقيام جامعة الدول العربية بل ربما بالعكس جاء إنشاؤها إضاءة على عجز العروبة حتى الآن عن التجسد في أي كيان رسمي جاد ومتحرك، وقادر على الفعل في خدمة حاضر العرب أو مستقبلهم. بل إن إنشاءها جاء يخدم المقولة الرائجة عند بعض الدول الاسلامية وعلى الأخص تركيا وإيران والقائلة إن العرب قد اتفقوا على أن لا يتفقوا، وهي عبارة شعوبية كارهة للعرب وهازئة بأهليتهم في خدمة قضاياهم وقضايا حلفائهم من المتضررين بمشاريع الاستعمار الغربي الناشط ضد المنطقة العربية، ودول العالم الثالث كافة. صحيحٌ أن العروبة كعروبة لم تواجه دائماً أعداءها من الدول الأجنبية الطامعة بخيرات العالم العربي مجتمعة وموحدة، ولكنها كانت على العموم منسجمة مع نفسها في بناء القدرة التنافسية فشعوب المنطقة وقادتها الجادون والمختصون حيثما كانوا برهنوا أنهم قيادات رسمية جادة أو شعبية مناضلة. كما أن العروبة كانت وظلت مدرسة تربي الأجيال على احترام القيم التحررية والوحدوية التي تغذي الوجود القومي والوطني لشعوب الأمة وقادتها الجادين حيثما كانوا. كانت العروبة وظلت انتفاضة ضمن الذات الوطنية والقومية للأمة وعزيمة في تجديد النفس والأساليب والنظر في تجارب الشعوب، وشروطاً تفرض نفسها على النضال العربي المعتبر بعلم منه أو غير علم، ونموذجاً ضمن العالم الاسلامي وعند العدد الأكبر من الشعوب الآسيوية والأفريقية، وعلى شواطئ المتوسط المعتبر من حيث يدري أو لا يدري بحراً عربياً. وإذا كان الزعيم الايطالي موسوليني قد قال عن البحر المتوسط "ماري نوسطروم" أي "المتوسط بحرنا" فإن الدول المحيطة بالمتوسط تعرف جميعاً أن العرب هم أصحاب الحق بالعبارة التي أطلقها الزعيم الايطالي في زمانه ليتبين له قبل غيره كم هو هذا البحر عربي قبل أن تكون فيه حصة مشروعة أو غير مشروعة لأي دولة أخرى أفريقية أو أوروبية. ومن مرويّات التراث العربي - الإسلامي أن أعرابياً عاتب الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) قائلاً: إنك تدعو المؤمن الى العصية العمياء وحب السيطرة يقوده على نصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، افهم أن أنصره مظلوماً ولكن كيف أنصره ظالماً وأنا مسلم؟ أجاب الرسول: تأخذ بيده فتمنعه عن الظلم. إن إنقاذ القوي من زهده بقوته كإنقاذ الضعيف من ذل ضعفه سواء بسواء فقد ينحرف عن الصواب وان اختلف نوع انحرافه عن انحراف الآخر. فما الوطنية اللبنانية الصافية، وما القومية العربية النهضوية إلا بشائر على استمرارية هذا الوطن اللبناني وهذه الأمة العربية في التمسك بالقيم الوطنية والقومية والانسانية عموماً بكل ثقة وارتياح. لقد استطاع الاستعمار الغربي أن يدجن إيران وتركيا ويوصفهما في مشاريعه الاستعمارية ولكنه فشل في تدجين العروبة التي وقفت سداً في وجه مشاريعه في القارتين الآسيوية والأفريقية. وهناك من الغربيين من يعتقد أن التحالف مع إسرائيل رفع ورق التوت عن جسم الاستعمار فنضعه في كل مكان فالأفارقة والآسيويون وغيرهم لمسوا بشاعة الاستعمار الغربي ولاإنسانيته من خلال سلب الغرب فلسطين وإعطائها للصهيونية. لقد نجحت الصهيونية في أن تصهين الاستعمار الغربي بحيث لا يعد فارقا بين المسيحي الغربي، واليهودي الصهيوني، وهو ما يستنكره كل مسيحي حقيقي غربي أو غير غربي. إن المسيحية هي ثورة على اليهودية أولاً ولكن مصالح المسيحيين الغربيين تعمل أحياناً كثيرة على طمس هذه الحقيقة الجوهرية المفروض أن لا تخفى على أي مسيحي غربي أو غير غربي. لم يعودوا قلة بلا شك المسيحيين الواعين على هذه الحقيقة سواء غربيين أو غير غربيين فالحق موجود عند كل مسيحيي العالم من التصهين، فلا أحد عاقلاً، لا أوروبي ولا أفريقي ولا غيرهما يمكنه أن يُنكر أن المسيحية هي أولاً وقبل كل شيء آخر ثورة على اليهودية المتصهينة. والمصالح الصغيرة للمسيحي الأميركي والأوروبي أضعف من أن تضغط على عقول مسيحيي العالم إحدى القوى الأقوى والأكثر وعياً سياسياً في العالم. ولكن لابد من التنبه الى أنه ما دام هناك مصلحة عند مراجع مسيحية غربية في العالم في دوام الاستعمار فإن الصهيونية ستظل مدعومة من قوى ذات شأن في مصائر الشعوب. باختصار لابد من التذكّر الدائم أن الشعوب العربية والآسيوية والأفريقية تبقى الظهر الأساسي وربما الوحيد للحقوق العربية والاسلامية حيثما كانت. وهنا يتوجب علينا أن نفهم أكثر أهمية نزع الهوية العربية الاسلامية والمسيحية لأهل فلسطين فتهجير الفلسطينيين من أرضهم كان ولا يزال أكبر ضربة لحقت بالعرب والمسلمين والمسيحيين الشرفاء منذ زمن بعيد. فهؤلاء الثلاثة هم الذين نزلت بهم ما درج على تسميته بنكبة فلسطين وقد غيرت حتى الآن أُسساً حياتية لشعوب آسيوية وأفريقية كثيرة، بل أوروبية كتركيا والدول البلقانية التي تغيرت من حيث تدري أو لا تدري في مستقبلها وطريقة حياتها، ولعل قلة في تركيا وإيران وغيرهما من الدول الاسلامية كالزعيم التركي رجب طيب أردوغان أدركوا ويدركون حجم الزلزال النازل بالمنطقة والمستمر بوعي أو بغير وعي. وقد يكون هذا الانسان التركي لم يسبق غيره في فهم التطورات إلا أنه استلهم التاريخ العثماني فالزلزال بدأ منذ ذلك الوقت. لم تكن المرحلة العثمانية أقل أهمية في تاريخ المنطقة من الفترة الأموية أو العباسية بل لعلها الأهم في تاريخ المنطقة الاسلامية فهي مرحلة حكم فيها الاسلام بلاداً أوروبية كبلغاريا ويوغوسلافيا واليونان وإذا كان العرب قد فتحوا الأندلس فإن الأتراك جعلوا من اسطنبول عاصمة أوروبية تأمر في أوروبا وتطاع. التقدم المدني ضروري للشعوب والعراقة وحدها هي اللائقة بالخالدين ومستحقي الخلود. لا يكفي الأفذاذ أن يسابقوا من عاصرَهم بل لابد من أن يفوح من عباءاتهم عطرُ التاريخ فهو وحده الساحر الذي لا يزاحمه سحر..