لقد عنت العروبة للإنسان العربي مرتبة من الكفاءة والكرامة والجدارة عاشها مدة غير قصيرة من الزمن، وهو كامل الأهلية لها في الحاضر والمستقبل. وإن أحجم أو قصر في أخذ مكانه الطبيعي هذا على سدتها فهو ليس من العروبة في شيء، ولا هي منه. جاء زمنٌ في ماضي الأمة العربية لم يكن فيه اتفاق بين الجماهير والنخب على ما تعنيه كلمة عروبة سوى أنها نوع من طرح الصوت على جماهير الأمة بأن لا تستسلم للمصاعب القائمة، فتبقى مستيقظة على حقوقها وقدراتها، مؤمنة بمكان لها كريم تحت الشمس كان لها في الماضي ومن حقها أن تستعيده. لقد عنت العروبة للإنسان العربي مرتبة من الكفاءة والكرامة والجدارة عاشها مدة غير قصيرة من الزمن، وهو كامل الأهلية لها في الحاضر والمستقبل. وإن أحجم أو قصر في أخذ مكانه الطبيعي هذا على سدتها فهو ليس من العروبة في شيء، ولا هي منه. تاق الأكثرون من العرب الى معاني العروبة، والكثيرون منهم عاشوها. لم يمر يوم في تاريخ هذه الأمة لم يكن فيه إجماع بين العرب على ما تعنيه كلمة عروبة كاسم لقضية بشرية تتخاطب شعوبها في ما بينها باللغة العربية. والمعروف ان الزعيم السوري الدمشقي الشهير في زمانه فخري البارودي رأى ضرورة لأن يضم الى النشيد الوطني الذي نظمه للشباب السوري مقطعاً خاصاً يحدد بالنظم الموزون المقفى جغرافية البلاد العربية المدعوة جميعاً الى التماسك فيما بينها باعتماد النهج النهضوي التحرري الذي به تحقق الأمة أمانيها، وهكذا فالنشيد يبدأ بالنص الجغرافي على أن بلاد العرب ممتدة من الشام لبغدان الى نجد الى يمن الى مصر فتطوان... أي أنها تطاول آسيا أيضاً وأفريقيا، ثم يمضي الناظم في التأكيد على أن الوحدة الوطنية المطلوبة العمل لها هي قومية المضمون والتوجّه. فلا دين يفرق الأمة بل لسان العرب يجمعهما. هذه القصيدة الأغنية التي نظمها الزعيم السوري فخري البارودي كان لها دورها في بلورة الوطنية الشائعة في وقتها، وكان لها دورها في انهاء حكم الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان. فالروح الوطنية الجامعة التي تنطوي عليها كلمات النشيد أسهمت في زعزعة الانتداب الفرنسي على كل من سورية ولبنان وإيجاد رباط قومي بينهما بل جعلت منهما بلداً واحداً يستحيل تفتيته من قبل الفرنسيين وأتباعهم. كان على العرب أن ينتظروا عشرات السنين وأن تقوم دولة الصهيونية في فلسطين حتى تنتفض الروح الثورية من جديد في قلب الانسان العربي، فتدخل بقوة كما نراها اليوم في صميم الخطاب السياسي والغنائي العربي، وذلك عبر أنشودة باللهجة المصرية بالغة الثورية والروح الشعبية هذه المرة وهي القائلة: الأرض بتتكلم عربي، وكأنها تفجر البركان العربي الذي تنطوي عليه أرض فلسطين المقدسة، والتي لم تكن بل إنها ستمتد أيضاً الى كل شبر من أرض العرب معلنة الرفض لأكبر عملية سطو قامت بها أي حركة عنصرية في تاريخ العالم ونعني بها زرع الصهيونية محل العرب على أرض فلسطين. الأرض بتتكلم عربي، إنها العبارة العفوية التي إن لم يفهمها ويتجاوب معها كل الشعب العربي اليوم إلا أنها سوف تظل تعلو بل وتصرخ في الضمير حتى تطهر الوجدان العربي من كل ضعف ورضوخ للظلم القائم حالياً بوجه خاص على التراب الفلسطيني والذي بدأ بلاشك يحفر عميقاً في النفس العربية والضمير العربي. ولعل الأمة العربية بدءاً بالفلسطينيين العرب هي الجهة الوحيدة القابلة لأن تتفهم دوراً ما للانسانية على هذا السبيل. إنه لشرف للعروبة أن تكون المرشحة قبل غيرها للتصدي للصهيونية، وما العبارة الشائعة اليوم في البلاد العربية بل والمغناة التي تقول الأرض بتتكلم عربي إلا شهادة على تناقض غير قابل للتجاوز بين كمال الحق العربي والفلسطيني من جهة، وكمال الباطل الاسرائيلي الصهيوني المدعوم من حكام الغرب من جهة ثانية. إنها كرامة الأمة العربية المنتفضة والمستعصية على التدجين جاءت تعبر عن نفسها بهذه اللهجة الثورية الصارخة. لقد كانت كلمات السيادة والكرامة والعزة دعامة قوية للخط الوطني والعربي، ولكن هذه المرة جاءت العبارة الشعبية الهاتفة على لسان الجماهير "الأرض الأرض بتتكلم عربي" تحمل شحنة من الروح الشعبية والكرامة الوطنية والتقديس للأرض والذات الوطنية ما أنزلها مكاناً خاصاً في نفوس الخاصة والعامة على حد سواء. إنها صرخة شعبية الروح ضد مخطط التهويد لأرض فلسطين التي أعطاها العرب من دمائهم منذ أن ظهرت ملامح التفاهم الاستعماري الغربي واليهودي الصهيوني على تنفيذ إحدى المؤامرات الأبشع في التاريخ الانساني الهادفة الى إحلال تل أبيب الصهيونية محل القدس العربية التاريخية المسلمة والمسيحية، وموجات الاستيطان المتواصلة والمتسارعة مستغلة انشغال العالم بالثورات العربية. إن من قال منذ زمن بعيد العبارة الشهيرة: "العربية لسان أهل الجنة" لم يفعل إلا أن أذاع حقيقة الرباط الخاص الذي ربط على مر الزمن العروبة والاسلام، ففي كل عربي مسيحي شيء من الاسلام كما قال أحد كبار الكتاب والمفكرين اللبنانيين الراحل فليكس فارس. وإذا كان السياسي المصري الكبير مكرم عبيد قد قال مرة إنه لا يعرف أين تنتهي مسيحيته ليبدأ إسلامه والعكس بالعكس؟ فإنه عبر بذلك عن حقيقة الروابط التي كانت دائماً تشد المسلم العربي والمسيحي العربي، بل تشد المسيحية العربية الى الاسلام العربي. لقد لعبت الأناشيد الوطنية في كل بلدان العالم دوراً كبيراً في تنشئة الشعوب وشدها بنوازع الفخار الوطني والدفاع عن التراب القومي، بل لعل الكلمة المنظومة رافقت نهضة الأمة العربية منذ العهد العثماني. بل كان للعربية قداستها في النفوس بأكثر مما عرفت معظم أمم العالم. وفي التراث مقولة شهيرة هي أن العربية لسان أهل الجنة، وكلما تعمق الدارسون فإنهم يجذرون في النفوس حرمة العربية التي قد تعني للعربي أكثر مما تعني أي لغة أخرى لأبنائها. في أوساط النخب العرب شيء، والشطحات الشعبية المخلصة عند جمهور الناس العرب شيء آخر وها ان الناس العاديين من العرب يبدون الآن وقد اختاروا لغتهم ومن هذه الأصوات المنتشرة في الشارع العربي والخارجة من صميم الفطرة الشعبية المعتزة بالذات القومية والصائحة في كل الآذان الصماء: الأرض الأرض بتتكلم عربي. إنه صوت الجرح العربي المنطلق من أرض فلسطين المنحبسة بالاحتلال الاسرائيلي العامل على تغيير هويتها بدعوة كل يهود العالم الى الاحتشاد عليها وتحويلها الى مخيم يقصده اليهود الصهاينة والمتصهينون من كل قارات العالم ولا سيما القارة الأميركية الشمالية التي نجحت الصهيونية في إيهامها بأنها في دعمها عودة اليهودية الى فلسطين تكون قد ربطت بين القارة الأكثر جدة على وجه الأرض أي أميركا الشمالية وفلسطين البقعة المقدسة في تاريخ جميع الأديان السماوية سواء من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود. وهكذا تكون اسرائيل قد عرفت كيف تضرب على وتر حساس عند الأميركيين الشماليين ذوي الميل الى الربط بين أقدم ما في العالم من أديان، وأجدّ ما في العالم من نزعات سيطرة استعمارية وغير استعمارية. ولعل القضايا المشتركة والأهداف المشتركة والنشأة المشتركة هي التي كانت تجمع بعض الدول الغربية بالصهاينة قبل أن تجمع الطقوس والنصوص..