تذكر يوم كنّا نلعب ب»الطابة»، وأبوي وشيبان الحارة قاعدين ب»المشراق»، وأمي تسولف مع أم الجيران ب»المجبب».. تذكر مدرستنا الأوله، وعيال الجيران اللي نلعب معهم ب»كورة النيدو».. يوم الناس تنام بدري وصوت الديك ومكينة القليب تصحّينا مع الصباح.. مثل هذه «السواليف» والذكريات تتكرر في مجالسنا وأحاديثنا.. «بيتنا القديم» صورة راسخة في مذكراتنا وقصة حنين لعبراتنا، كانت بيوت «أول» قبل أكثر من ستين عاماً لا تعرف البلوك والبناء المسلح في جميع مدن وقرى وهجر المملكة، فقد كان البناء في معظمه من المواد الخام التي تزخر بها الأرض وهي لا تبتعد عن الطين أو الحجر في البلاد الجبلية، كانت الحياة تدب من خلف جدرانٍ منحها الله سمة «العزل الطبيعي» لتقي أهلها زمهرير الشتاء وسموم وحر الصيف، هي في البرد دافئة وفي الصيف باردة، تحيط بها المزارع والنخيل وشيء من الماشية والأنعام.. ناهيك عن ديك يصيح وقليب يطرب الأهالي لسماع صوت السواني التي «تزعب» الماء وتترك لهم الدور في البحث عن الغذاء الذي يجدونه حولهم؛ بمقايضة اللحم بما تنتجه الأرض من حقولها وبقولها في وقت لا يُشاهد فيه الريال المحلي ولا حتى «الفرانسي»؛ لكون الأهالي يقايضون ما يملكونه بما يحتاجونه، فاللباس والأكل والأثاث وكافة حوائج أهل الدار تتوفر بالمقايضة والتدوير. كانت بيوت زمان عامرة باجتماع أهلها فالأم والأبناء والبنات وزوجات الأبناء كلهم في منزل الأب يأكلون من طعام واحد وينتجون كل ما يلبسون أو يحتاجون، لكل فرد منهم مهمة لا يحيد عنها، فالرجال في المزرعة أو في السوق والنساء في الحياكة والسقاية والطهي والصغار من البنين والبنات موظفون لرعي الأغنام والحفاظ عليها. تقدم الزمان وتوسعت المدن الصغيرة التي كانت بمثابة قرى لا يتجاوز عدد سكانها المئات من الرجال والنساء كما تقدمت سبل الحياة والرفاهية، فظهر «الحنتور» الذي عرف فيما بعد ب»السيارة»، وكان اشتقاق اسمة من «حنطور» وهي العربة التي تجرها الخيل بلغة وسط آسيا، كما ظهرت الكهرباء ودوى رنين الهاتف في أرجاء المنزل، وكانت أوائل المولدات الكهربائية التي دخلت الجزيرة العربية تلك التي كانت تحيط بالحرم المكي الشريف، وطلب الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في الأربعينيات الهجرية من المهندس الهندي «رفيق» أن يجلب له مولداً كهربائياً يضيء به قصر المربع ومجلس الضيافة، فعمّد «ابن سليمان» بالشراء، وبعد محاولات مضنية دوى صوت مولد الكهرباء في أرجاء مدينة الرياض ليتقدم الزمان، وتدخل عناصر البناء الحديث في تشيد المباني ويستورد الملك سعود إضاءة «النجف»، أو ما يسمى ب»الفلورسنت» إلى قصر الناصرية الأول، فتكاد الإضاءة البيضاء في وسط براري الناصرية تخلب ألباب ضيوف القصر. حي دخنة وسط الرياض يحكي ماضٍ جميل لن يعود يزداد العمران في العاصمة الرياض والمدن الكبرى في وسط المملكة فيتغير وجه المدينة ويتسابق أساتذة البناء في زخرفة المباني والقصور -حتى الطينية منها-، ويمنح المولى سبحانه هذه البلاد نعمة النفط المتدفق من خزائن الأرض الذي ساهم بفضل الله في تأمين مصروفات البناء والتشييد للبنى التحتية، فتم تخطيط المدن وتعبيد الطرق وتأسيس وإنشاء المرافق الحكومية والمتنزهات العامة، ليدخل المجتمع في عصر المدنيّة بشتى أطوارها ويعيش بداية عصر جديد مع النقلة الاتصالية والثورة الإعلامية، يصاحبها قرارٌ بمنح القروض العقارية للمواطنين لتتوسع أبواب وبوابات المدن والقرى على مصراعيها أمام زحف عمراني رهيب، وتوسع أفقي للمدن الكبيرة تزداد معها مساحة منازل الأهالي الذين عرفوا السجاد واستعاضوا «المشراق» ب»البلكونة» و»المجبب» ب»الصالة»، وزينوا بيوتهم بالقرميد «الجمالون»، والجرانيت ثم تطور بهم الأمر فعرفوا «البروفايل» وأرضيات «الباركية» والبورسلان. منازل الألفية الجديدة أكثر تكلفاً في وقت ظلت فيه الحياة الأسرية والعلاقات الحميمية تصارع من أجل بقاء الصورة النقية للأسرة المجتمعة والمتكاتفة للصمود، أمام المشاغل الحياتية والثورة الاتصالية التي قلّلت من روابط الاتصال الشخصي المباشر بين أفراد الأسرة الواحدة، لم يسلم أفراد العائلة -في حال اجتماعهم- من انشغال أبنائهن بأجهزة التواصل الاجتماعي لتصبح البيوت المكنونة فيما مضى من الزمان وكأنها في هذا الزمان شبكة اتصال لا سلكي، حيث فقدت فيه «بعض» المنازل روح التكاتف وحميمية اللقاء وسط البيوت الواسعة في المدن الكبيرة التي ما أن يتذكر أبناءها حياتهم في أكنانهم الوادعة وسط «بيتهم القديم»، إلاّ ويرددون قول ذلك الشاعر الذي وقف على إطلال منزله القديم يبكي زمناً مضى وهو يقول: يا ناس ذاك البيت لا تهدمونه خلوه يبقى للمحبين تذكار عش الحمام اللي بعالي ركونه رمز الوفاء رمز المحبة والأسرار يما حلى الأيام كانت حنونه وياما حلى في مجلسه شبت النار