يلحظ الزائر لجنوب السودان، على نحو سريع، تواضع إمكانات الدولة الجديدة، أو لنقل مظاهر بنيتها التحتية، بما فيها تلك القائمة في جوبا. لا يوجد في دولة جنوب السودان سوى 60 كيلومتراً من الطرق المعبدة، كما تعد الكهرباء عملة نادرة، لا تتوفر سوى للقادرين على دفع الفواتير الباهظة. نصف عام مضى على ولادة دولة جنوب السودان، في تموز/ يوليو من العام 2011. فترة قصيرة لا تكفي للحكم على تجربة دولة وليدة، لكنها تبدو كافية لرؤية التحديات والصعاب التي تعترض مسارها. لقد نجحت دولة جنوب السودان في تشييد عدد من مؤسسات الإدارة، كما أصدرت عملة نقدية، وجوازات سفر. ونسجت الدولة الجديدة روابط دبلوماسية مع غالبية دول العالم. وبات ساستها ووزراؤها يجوبون شرق الأرض وغربها بحثاً عن المعونات والاستثمارات. وبالطبع، بحثاً عن تعزيز الموقف السياسي. وأضحت جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، محطة للكثير من الزائرين، بينهم ساسة ودبلوماسيون، وكثير من الإعلاميين. وعلى الرغم من مظاهر البهجة، التي تغطي شوارع جوبا، فإن التحديات تبدو ظاهرة هي الأخرى. ويتحدث عنها صراحة مسؤولو دولة الجنوب لزائريهم. تشمل التحديات بعيدة المدى، التي تواجه جنوب السودان، مسألة التخفيف من حدة الفقر، والحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، وتطوير تحصيل الضرائب والإدارة المالية، مع التركيز على نمو الموارد، وتحسين بيئة الأعمال. وتتوقع حكومة جوبا نمواً قدره 7.2٪ في العام 2012. وكان معدل التضخم قد بلغ في ربيع العام الماضي 8.6٪، مع ارتفاع أسعار الوقود التي قادت لارتفاع أسعار المواد الغذائية. وتعتمد دولة جنوب السودان، بصورة كبيرة، على استيراد السلع والخدمات، ورؤوس الأموال، من شمال السودان. ولا تزال هناك قضايا عديدة لم تحسم بعد بالنسبة للدولة الجديدة، منها ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، والوضع النهائي لمنطقة أبيي. كما يتبادل السودان وجنوبه الاتهامات بدعم جماعات متمردة على جانبي الحدود، ما يعقد محادثات بشأن قضايا أخرى لم تحل بعد مثل الديون والنفط. وهناك، من جهة أخرى، مناوشات دورية وذات طابع عنيف بين بعض القبائل، تتعلق بالمياه والمراعي على طول الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى. كذلك، لا تزال الحدود التي تفصل بين كينيا ودولة جنوب السودان غير واضحة لجهة السيادة على "مثلث ليمي" (Ilemi Triangle)، الذي تتولى كينيا إدارته منذ الحقبة الاستعمارية. يلحظ الزائر لجنوب السودان، على نحو سريع، تواضع إمكانات الدولة الجديدة، أو لنقل مظاهر بنيتها التحتية، بما فيها تلك القائمة في جوبا. لا يوجد في دولة جنوب السودان سوى 60 كيلومتراً من الطرق المعبدة، كما تعد الكهرباء عملة نادرة، لا تتوفر سوى للقادرين على دفع الفواتير الباهظة. ويتم إنتاج الطاقة الكهربائية في الغالب بواسطة المولدات العاملة بالديزل، ذات التكلفة العالية. ولذا فإن غالبية السكان لا تستطيع الحصول عليها. كذلك، فإن خطوط المياه تُعد نادرة أو شحيحة في عموم البلاد. وفي مناطق البلاد المختلفة، يعتمد الكثير من السكان على ما يُعرف بزراعة الكفاف، التي لا تستطيع سوى توفير لقمة العيش. وتستحوذ الزراعة على 80% من القوى العاملة في دولة جنوب السودان، إلا أن مساهمتها في الدخل القومي لا تكاد تذكر. وهذه إحدى المعضلات الهيكلية الكبرى، التي تحتاج البلاد عقوداً من الزمن لتجاوزها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مساحة دولة جنوب السودان تبلغ 644 ألف كيلومتر مربع. وهي تقع في المرتبة 42 عالمياً على هذا الصعيد، بعد أفغانستان (652 ألف كيلومتر مربع)، وقبل فرنسا (643 ألف كيلومتر مربع). ويصل عدد سكان البلاد إلى 8.26 ملايين نسمة. وهي تقع في المرتبة 92 عالمياً على هذا الصعيد، بعد أذربيجان (8.37 ملايين نسمة)، وقبل النمسا (8.21 ملايين نسمة). ولدولة جنوب السودان حدود تمتد لنحو 2000 كيلومتر تقريباً، مع خمس دول هي: إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى. * الزراعة والغذاء: تحظى دولة جنوب السودان بواحدة من أغنى المناطق الزراعية في أفريقيا، في وادي النيل الأبيض، المشهور بتربته الخصبة، ومصادر مياهه الوافرة. ويدعم هذا الواقع نحو 15 مليون رأس من الماشية. ويكفي تدفق النيل الأبيض لتوليد كميات كبيرة من الطاقة الكهرومائية، لو توفرت الاستثمارات اللازمة لذلك. ويخطط البنك الدولي في الوقت الراهن لدعم الاستثمارات في جنوب السودان، في مجال البنية التحتية والزراعة وتوليد الطاقة. وقد تلقى جنوب السودان أكثر من أربعة مليارات دولار من المساعدات الأجنبية منذ العام 2005، جاء غالبيتها من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج وهولندا. وأجرت دولة جنوب السودان في الفترة الأخيرة محادثات مع مستثمرين من دول الخليج العربية، والصين وأوغندا وهولندا، لدعوتهم إلى الاستثمار في الإنتاج الزراعي. ويسعى جنوب السودان لرفع إنتاج المواد الغذائية الأساسية، مثل السكر والأرز والبقول والبذور الزيتية والماشية والقطن، من خلال الاستثمارات الأجنبية المتوقعة، أو المطلوبة إجمالاً. ويستعد الجنوب لطرح عطاءات لدعوة المستثمرين لتحديث مصانع الأغذية التي تضررت أثناء الحرب الأهلية. كما يستعد لإقامة شراكات أخرى، مثل الاستثمارات في الأراضي الزراعية. وتسعى حكومة جنوب السودان كذلك لتسهيل التجارة مع دول شرق أفريقيا، مثل أوغندا وكينيا. وتدرس إقامة مناطق للتجارة الحرة في المناطق الحدودية. وفي الوقت الراهن، يبلغ إنتاج جنوب السودان من المواد الغذائية 750 ألف طن، وهو ما يمثل نصف ما تحتاجه البلاد من الغذاء. ووفقاً لمنظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة(الفاو)، فإن تقييماً للمحاصيل يشير إلى زيادة عجز الإنتاج الغذائي إلى أربعمائة ألف طن متري في العام 2011، مقارنة بمائة ألف عام 2010. ولفتت الفاو أيضاً إلى أن جفافاً بمنطقة القرن الأفريقي المجاورة تسبب في زيادة أسعار الغذاء بجنوب السودان. ومن ناحيته، حذر برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة من أن دولة جنوب السودان ستشهد نقصاً حاداً في الغذاء في العام 2012. وحسب المنظمة الدولية، فإن نحو 2.7 مليون شخص في جنوب السودان سيحتاجون إلى مساعدات غذائية، إذ أثر العنف وتلف المحاصيل في الإنتاج الزراعي. وتشير المنظمة إلى أن مئات الآلاف من الأطفال سيكونون عرضة للإصابة بسوء التغذية . وقالت الأممالمتحدة إن هذه الأعداد معرضة للجوع بسبب هبوط موسم الحصاد، وانعدام الأمن، واستمرار النزاعات القبلية المسلحة. وفي السابع من كانون الثاني/ يناير الجاري، قالت الأممالمتحدة إن عشرات الآلاف من السكان، الذين فروا من أعمال العنف القبلية باتوا في حاجة ماسة إلى الطعام. وقالت هيلدا جونسون، المبعوثة الخاصة للأمم المتحدةلجنوب السودان، إن البعض "ليس لديه أي طعام منذ يومين أو ثلاثة... يشربون المياه من النهر". والخلاصة هي أن حالة الزراعة والغذاء في دولة جنوب السودان تشهد وضعاً ضاغطاً، على الرغم من كل المقومات الطبيعية المتاحة للإنتاج الزراعي، إذ تكمن المشكلة في ضعف الاستثمار الدولي اللازم لتطوير هذه الزراعة. * تصدير النفط ومن الزراعة إلى النفط، فكما سبقت الإشارة، تعتمد دولة جنوب السودان على عائدات النفط الخام، على نحو لا مثيل له في أية دولة نفطية أخرى في العالم. ويستحوذ جنوب السودان حالياً على حوالي ثلاثة أرباع إنتاج النفط السوداني السابق، البالغ نحو نصف مليون برميل يومياً. وتستمد حكومة جوبا من هذا الإنتاج ما يقرب 98٪ من إيرادات الموازنة. وقد بلغت عائدات جنوب السودان المتأتية من النفط، خلال الفترة بين تموز/ يوليو وتشرين الأول/ أكتوبر 2010، أكثر من أربعة مليارات دولار. وعلى الرغم من ذلك، تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن إنتاج النفط الخام في جنوب السودان بدأ ينخفض، من ذروته في 2009 عند نحو 360 ألف برميل يومياً، ليصل إلى نحو 300 ألف برميل. كذلك، لا تزال العلاقة الشائكة بين جنوب السودان وشماله تمثل عامل ضغط كبيرا على الصناعة النفطية في الجنوب. وفي الحادي عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، اتهمت دولة جنوب السودان الخرطوم بتعطيل تصدير 3.4 ملايين برميل من النفط الخام، وتحويل نحو نصف مليون برميل إلى مصافيها، وبناء خط أنابيب لمواصلة تحويل مسار نفطه. وسبق أن اتهمت جوباالخرطوم، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بمنع تصدير 1.6 مليون برميل مؤقتاً في بورسودان. وهددت الخرطوم باستقطاع 23% من صادرات نفط الجنوب كمدفوعات عينية، إلى أن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي. وليس هناك من خط تصدير بديل لنفط دولة جنوب السودان حتى اليوم. وهناك مشاورات مع كينيا لتصدير هذا النفط عبر ميناء ممباسا على المحيط الهندي، إلا أن تكلفة هذا المشروع كبيرة. ويقال إن الصينيين يدرسون إمكانية تمويله. وإضافة للنفط، يحوي جنوب السودان على العديد من الثروات الطبيعية، بما في ذلك الذهب، الفضة، النحاس، الزنك، الحديد، الأخشاب والأحجار الكريمة. * الاشتباكات القبلية: على صعيد ثالث، يُمكن الإشارة إلى أن إحدى مشكلات جنوب السودان البادية للعيان، تتجلى في حوادث الثأر والاشتباكات التي تنشب بين القبائل المتنافسة، خاصة في المناطق النائية، التي يقل فيها منسوب سيطرة الدولة. وفي أواخر العام الماضي، هاجم نحو ستة آلاف مسلح يطلقون على أنفسهم "الجيش الأبيض لشبيبة النوير" (إحدى القبائل الكبيرة بالمنطقة) منطقة بيبور التي تسكنها قبيلة مورلي، متهمين أفراداً منها بسرقة ماشيتهم. ولم ينسحب المسلحون إلا بعد أن أوقعوا نحو ثلاثة آلاف قتيل، بينهم 2182 امرأة وطفلاً. وأصدرت جماعة الجيش الأبيض لشبيبة النوير بياناً في 26 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تعهدت فيه ب"محو قبيلة مورلي بالكامل كحل وحيد لضمان توفر الأمن لماشية قبيلة النوير". وفي السياق ذاته، قالت حكومة جنوب السودان، في الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، إن نحو ستين شخصاً، معظمهم نساء وأطفال، قتلوا في اشتباكات قبلية، وقعت في الحادي عشر من الشهر ذاته. ووفقاً لتقارير دولية، فإن العنف القبلي، والهجمات التي تستهدف سرقة المواشي، والهجمات المضادة لها بولاية جونقلي قد أسفرت خلال العام الماضي عن مقتل ألف ومائة شخص، وتهجير حوالي 63 ألفا من منازلهم. وقد أعلنت الأممالمتحدة بأنها ستطلق حملة إنسانية واسعة لمساعدة المتضررين من الصراع القبلي في ولاية جونقلي. وتهدف الحملة المزمعة مساعدة الآلاف على العودة إلى ديارهم. وكانت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب قد دامت عقوداً من الزمن (1955-1972 و1983-2003)، وأسفرت عن قتل ما يزيد على مليوني شخص، وتشريد أربعة ملايين آخرين، أصبحوا لاجئين داخل وطنهم. كما لجأ نحو 420 ألف نسمة للدول المجاورة. وفي المجمل، يوجد في جنوب السودان ما لا يقل عن 80 ألف نازح، بسبب الحروب وتدهور الأحوال المعيشية. كما يوجد حوالي 21 ألف لاجئ، غالبيتهم من إثيوبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. ولدى دولة جنوب السودان جيش كبير نسبي. وغالباً ما يسفر التأخير في دفع رواتب أفراده عن أعمال شغب وتمرد، يقوم بها الجنود الغاضبون. وعلى إثر انتقادات وجهتها هيئات دولية، أعلنت حكومة جوبا في آب /أغسطس 2010 بأن كل الفتيان الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة سوف يجري إخراجهم من الجيش. إلا أنه يعتقد بأن هناك ما لا يقل عن 900 طفل لازالوا يخدمون في جيش جنوب السودان. على صعيد عمليات التسليح، تشير تقارير دولية بأن جنوب السودان قد حصل من أوكرانيا على 77 دبابة سوفياتية الصنع من طراز (T-72M1)، و11 مدفعاً ذاتي الدفع. وقد حصلت جوبا على هذه الأسلحة عبر كينيا، من خلال شهادة تصدير أوكرانية وجهتها المعلنة نيروبي. كذلك، حصل جنوب السودان على عشر مروحيات عسكرية روسية من نوع (Mi-8) و (Mi-17) و(Hip-H). وكان الجيش الشعبي لتحرير السودان قد حصل قبل ذلك، من مصدر مجهول، على 50 صاروخا مضادا للجو، من نوع (Strela-2/SA-7 Grail) المحمولة على الكتف خلال عامي 1987 - 1988. وما يُمكن قوله خلاصة هو أن دولة جنوب السودان تواجه انطلاقة مليئة بالتحديات. وإن كثيرا من رهاناتها يتجه إلى المجتمع الدولي لدعم برامجها ومشاريعها، خاصة على صعيديْ البنية التحية وتطوير القطاع الزراعي..