قد يراها البعض نوعاً من التداعيات والاستسلام العاطفي خواطر متضادة ونداءات من الماضي، قد يرى البعض هذا وذاك لكنها الحقيقة الراعفة وأنت تقف على أطراف شارع الوزير في قلب الرياض العاصمة وكأنك تجمع شتات الماضي أوراق التاريخ والبيوت المتطامنة والشوارع الضيقة والمتعامدة ومحمرة بلون بطحاء الرياض.. كان كل شيء حاضراً في مغرب ذلك اليوم الصيفي وأنت تتداول وجوه أهل الرياض ذوي الوجوه الممعنة بالمحلية والوجوه الأخرى التي تحتل الوزير الوافدة من جزر الشرق الآسيوي والغابات الأفريقية. هذا الخليط الذي حول شارع الوزير إلى غريب الوجه والمعصم. لماذا هجرنا وسط الرياض وأرسلنا دمعة باكية على الشارع الذي شهد بواكير التحضر والانفتاح والإرهاصات الاقتصادية وبدايات الطفرة التي أطلت علينا من هناك. لماذا هجرنا الوزير الشارع والعمق المحلي لنستوطن على ضفاف الدائري وأطراف المدن.. أنا لا أطالب العودة الجماعية لأحياء وشوارع الطفولة لجيل ما زال يستنزف الذاكرة ويتبادل مع الآخرين المرارات وآهات الماضي لكن لا بد أن نعيد اكتشاف وسط الرياض بعد الحملات الأمنية والتطهيرية الناجحة لوسط المدينة.. لا بد أن نبقي الحوار مفتوحاً ولا أقول الجرح مع الماضي حواراً معمارياً وديمغرافيا حواراً يبقى يتساجل مع الأرض والإنسان والمعمار. سأكون أكثر بوحاً في تفاصيل قد لا تكون مهمة للبعض لكنها للبعض الآخر نسيجاً نفسياً متداخلاً بأني أنا وجيلي اكتشفنا الشاورما لأول مرة في شارع الوزير وتعرفنا على الطعمية (الفلافل) والحمص والزيتون المعتق المخضر وزهورات الأرض البابونج والزعتر في شارع الوزير وكنا نرى هناك أناساً ذوي بشرة بيضاء وأزياء فسفورية ووجوهاً كألوان الزهر قادمة من محيطات بعيدة قيل لنا إنهم من بحر (الظلمات) كنا نرى بياض الثلج في القلوب والأيدي الممدودة لآبائنا المنزوين خلف «دكاكينهم » في الجانب الشرقي من الوزير وكنا نرتشف الشاي المعطر والقهوة المرة وطموح وآمال جيل يسابق الزمن ويملأ أرصفة الوزير بأحلام وتطلع لا حدود له. وعندما عدت لشارع الوزير بعد أن غيبتنا العمالة والسحنات الآسيوية وقتاً طويلاً لم يخطر ببالي سوى استرجاع رائحة زهورات الأرض التي تعرفت عليها هناك لأول مرة أصبحت مثل الشاعر الحصري القيرواني ابن طنجة الذي توفي سنة 488 يحاول وهو ضرير أن يتصيد خيال محبوته: نصبت عيناي له شركاً في النوم فعز تصيده كان شارع الوزير هديراً من العواطف وسيل تحف أطراف الحافات الكلسية وبوحاً لا أفق له أعادني إلى قصيدة محمد بن سلمان المحسن (الدرم) حين قال وهو يتوجد على معشوقته: لا جيت فالشارع اللي يدهله خلي وياطاه يا كثر لثت قدم رجلي وياكثر التفاتي مغير أسوق القدم ولا يطاوع لي بممشاه كنه يجر الحديد اللي حلاته يهاتي وشارع الوزير كان (مدهال) لجيل البعض منهم يملك قراراً إدارياً والبعض الآخر يملك قرار هندسياً وفي مواقع صنع القرار فلماذا لا يعاد النظر في احياء وتأهيل شارع الوزير ودفع الخدمات البلدية والتنظيمية داخله لأنه يشكل لجيل واسع نوعاً من الذاكرة الجماعية. شارع الوزير وشارع الخزان وشارع التلفزيون وشارع العصارات (مداهيل) يصعب نسيانها فهي جزء من تفاصيلنا وبدون تلك الأحياء العامرة في دواخلنا ستبقى ذاكرتنا معطوبة وحتى نحب الرياض كما يجب أن نحبها علينا أن نرمم (جوانحها) ونمسح برفق على ماضيها المعتق برائحة الطين والحجر والمزخرف بالنجمات الجبسية وأبوابها المستلة من جذوع الأثل حينما كانت الرياض تجمل (علوياتها) بالشروفات والمثلثات الجصية.