كان هذا المقطع بمثابة الصدمة للجميع، وان كانت مقاطع فيديو شبيهة به رأيناها ومن مختلف المدارس العربية!. يُظهر الفيديو ُمدرسا في محافظة من محافظات مصر وهو يضرب أطفال الحضانة بعنف وقسوة!. ولم يفلح أنين الأطفال واسترحامهم في ثني المدرس عن غيه. المهم ثارت الدنيا في مصر وثار الآلاف ممن شاهدوا هذا المقطع. وكردة فعل في مصر وبتأثير كما أعتقد من عنفوان ما بعد الثورة واعلاء قيم نبذ التسلط، أصدر النائب العام قرارا بتحويل المعلم إلى المحكمة واغلاق دار الحضانة. ما الجديد إذن في هذه الواقعة؟. المختلف والغريب أن أهالي الأطفال خرجوا في مظاهرة من أجل الإفراج عن المدرس وإعادة فتح المدرسة!!. بل حتى الأطفال ظهروا مع أهاليهم ورددوا ما رددوه من تأييدهم للمدرس!. أحدهم محامية قالت إن هذا المدرس معه كل الحق وهي بنفسها التي تقول له أن يضرب ابنها ليتأدب وهو مسكين لم يحدث حتى عاهات في الأطفال! وآخر يقول إنه ُضرب ومع ذلك الآن هو في مركز جيد ولم يمسسه سوء!. إحداهن تقول إنها تضرب أولادها واذا رأى المعلم أن الطفل يستحق الضرب لما لا؟ وهي تشبع طفلها ضربا كل يوم قبل أن توصله للحضانة!! وبالمناسبة هذه الأم لو أنها في بلد غربي لسحبت حضانة الأطفال منها وبدون تردد!!. المهم أن طفلا آخر يقول إن التعليم أساسا هو الضرب!!. وبالفعل وأمام ردود فعل الأهالي وتعاطفهم مع المدرس خرج بكفالة ووسط شعور الأهالي بالنصر وإحقاق الحق!!. كيف نفهم رد فعل الأهالي؟. نستطيع أن نفهمه من خلال ما طرحه أحد المفكرين التربويين وهو "بول فاريري" في كتابه (في تعليم المقهورين). يشير فاريري إلى أن الفرد المقهور والذي يتم التسلط عليه مع الأيام يتوحد مع قاهره ويمتثل لمنطقه ويوافقه موافقة عمياء في كل سلوكياته، وبالتالي يفقد النضال للتخلص من واقعه!. وهذا الطرح شبيه بطرح المحلل الفرنسي (اريك فروم) وذلك في كتابه الشهير (الخوف من الحرية) من كون الفرد المقهور مع مضي الزمن وكنتيجة لحرمانه من ممارسة الحرية في أبسط اختيارته وسلوكياته يبدأ في الالتصاق بقاهره بل ومحاولة ايجاد التبريرات له، ومن ثم يخاف هذا الفرد من عودة الحرية له! وذلك لأنه افتقدها طويلا بل ونسي كيف هي!. فيفضل الفرد هنا استمرار التبعية لمن يقهره عوضا من أن ينعم بحريته!!. وذلك من خلال عملية مستمرة ومعقدة من العنف والتلقين وطمس الذات!. قد يبدو هذا الكلام لأول وهلة غريبا ويخلو من المنطق!. ولكن بقليل من التأمل تفسر لنا هذه الفكرة الكثير من السلوكيات في المجتمعات العربية. فهل يعقل أن يتظاهر أهل لإخراج انسان اعتدى على أطفالهم بكل وحشية!!. ببساطة الآباء ربوا على السلطة والذوبان فيها والتأييد المطلق لها. علاوة أن مجتمعاتنا العربية تخلو من التكافؤ الإنساني وعلاقة أنا- أنت. لتبرز بدلا منها علاقة أنا أملكك.. أنا وممتلكاتي!!. وما الأم التي قالت إنها هي تضرب أيضا ابنها؛ إلا تعبير صارخ عن هكذا علاقة. ويبدو الأمر كالتالي: أنا أملك ابني..ابني شيء من أشيائي وبالتالي لدي الشرعية لضربه وتفويض الآخرين للقيام بهذه المهمة في غيابي!. وفي ذات السياق أشار تقرير التنمية العربية إلى أن التربية العربية تخنق حرية الطالب والمعلم معا. فالتربية تعاني من أزمات على رأسها التسلطية.. ولكن لنكن واعين أن التربية الحرة لا تتحقق إلا في ظل مجتمع متحرر من التسلط والعبودية للآخر أيا كان سواء أبا أو معلما الخ. لأن التعليم الحر يظل نسقا من أنساق المجتمع يؤثر فيه ويتأثر! ومن الصعوبة بمكان مهما عملنا أن نغير من واقع السلطوية في التعليم اذا كان المجتمع خارج أسوار المدرسة يعزز هذه السلطوية ويغذيها!!. يحدث لدينا التالي المجتمع ينتج معلمين سلطويين وهؤلاء ينتجون طلابا خانعين أو متسلطين وهكذا تمضي الدائرة!. كل ما سبق ونحن نتحدث عن العنف الجسدي وحدث ولا حرج عن العنف النفسي والذي يتغلغل في شتى الأنظمة الأسرية والتربوية في المجتمعات العربية!! يقول فاريري "وعلينا أن نعرف أن أي وضع يستغل فيه إنسان إنساناً آخر أو يعطل قدراته في تحقيق ذاته، هو ضرب من القهر العنيف وإن ُغلف في إطار من الكرم والحب الزائف، ذلك أن مثل هذا السلوك يحول دون ممارسة الكينونة الذاتية للإنسان". رحم الله الكواكبي فقد أبدع في كتابه "طبائع الاستبداد" وهو يشخص الاستبداد الذي تعاني منه الأمة. ولا أنسى أيضا انفعال المذيع المصري عمرو أديب وهو يعلق على مقطع الفيديو، وذكر خطاب أوباما والمعروف باسم (خطاب حالة الاتحاد). وكيف أن أوباما ركز فيه على اعداد وحالة المعلم في أمريكا؟!. ختاما يقول فاريري في استبصار عميق يرفض فيه أي حلول وسطى في مسألة التعليم بالذات: «لا يوجد تعليم محايد، فهو إما للقهر وإما للتحرير!! *قسم علم النفس "علم نفس اجتماعي" / جامعة الملك سعود