في سياق العزاء الذاتي إثر رحيل سيد البيد محمد الثبيتي عدت لديوانه الأول "أوراق الزمن الوردي"..قراءة ودرسا. لا أدري لماذا ديوانه الأول تحديدا ، مع انه لم يكن الديوان المفضل لي من بين دواوينه الأربعة ، لكنني عدت إليه وكأنني أريد استكشاف هذا الشاعر من جديد بعد أن صار كلمة شعرية في وجدان الزمن. وعلى الرغم من انها ليست قراءتي الأولى لذلك الديوان إلا انها المرة الأولى التي أتوقف فيها ملياً عند مقدمته التي كتبها الشاعر الراحل نفسه بأسلوب شاعري يليق بذلك الزمن وتلك المرحلة . وكمن يفسر التقديم أشار الثبيتي انه فكر في بادئ الأمر بالطلب من أحد الأدباء الكبار كتابة المقدمة إلا انه عدل عن ذلك لسببين ، الأول كما يقول " انني أردت ان أضع شعري بين يدي القارئ كما هو مجرداً من أي اعتبارات قد تحيطه بهالة من وهج مستعار سرعان ما ينكشف عند مواجهة البصيرة النافذة . والسبب الثاني : انني أحببت أن ألقي شيئا من الضوء على بعض قصائد هذه المجموعة ..إلخ". محمد الثبيتي ترى .. أي "وهج مستعار" يعنيه هذا الشاعر وهو يقدم مجموعته الأولى بتلك الثقة الهائلة والحماسة المتقدة ؟ هل يمكن لما يسميه بالوهج المستعار ان يخلق شاعراً من الصفر ؟ أعني أن يجعل من اللاشاعر شاعراً ؟ لعل الوهج المستعار ، الذي يساهم به الآخرون وليس الشاعر وحده ، يستطيع فعل هذا في البداية فقط ، أو لعله يوهم المتلقي انه فعل .. لكنه كأي شيء مستعار سرعان ما يمضي مع الريح وتبقى الحقيقة وحدها راسخة في مجدها الشعري . الثبيتي الذي كان واعياً لكل هذا منذ بداياته ، كما يبدو من مجمل التقديم ، أراد ، ربما أن يحمي قصيدته ، المختلفة آنذاك ودائماً ، من تلك الظنون التي قد تحيط بأي تجربة إبداعية مميزة في بداياتها ، فإما تزيد من توهجها وألقها ، وإما تساهم في انحسار الضوء عنها للأبد . وواضح ان هذا الوعي النقدي رافق الثبيتي في كل مراحله الشعرية اللاحقة، وكانت إصداراته القليلة التي وقف بها أخيراً "موقف الرمال" شاهداً على ذلك الوعي الذي كانت تزيده القوافي والتفعيلات على مر الزمن اتقاداً. لكن الأوضح من ذلك كله ان هذه التجربة الثبيتية لم تدرس حتى الآن كما يليق بها ، على الرغم من كل الكتابات النقدية التي دارت حولها من دون أن تدخل إلى أعماقها . برحيل الثبيتي اكتملت دائرته الشعرية ، وبقيت البؤرة بحاجة إلى اكتشاف حقيقي يفجرها من الداخل ، ولعل في ذلك الاكتمال النهائي فرصة مناسبة للتفجير النقدي المطلوب..فمتى؟ .