صفوة القول، لا أحد يعلم إلى أين تتجه الأمور، لكن المعطيات على الأرض تشير إلى دخول لبنان لمنزلق خطير كما وصفه وزير الخارجية السعودي، وبالتالي ففي تقديري انه لا يمكن حدوث انفراج سياسي ما لم يكن هناك اتفاق بين الأطراف الإقليمية على صيغة مشتركة بينها إزاء حل الأزمة... فشل الجهد العربي في إيجاد مخرج للأزمة اللبنانية يثير تساؤلات عن المستفيد من هذه العرقلة للجهود العربية والى ماذا كانت ترمي إليه؟. اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن بعض الأطراف في داخل وخارج لبنان لا ترغب في نجاح الجهد العربي، وبالتالي وضعت الأشواك والألغام ما جعل الأمور تصل إلى طريق مسدود. طبعا تبقى إسرائيل المستفيد الأول من هكذا أجواء واهتزازات وانقسامات في الجسد العربي، فضلا عن أن إيران ساهمت في تعقيد الأزمة ما جعل لها حضورا مؤثرا في المشهد السياسي اللبناني. سألت مسؤولا كبيرا ورفيعا، عُرف عنه اهتمامه بالإعلام والثقافة، عما إذا كانت السعودية لم تعد تهتم بالوضع اللبناني. أجابني بأن سياسة السعودية الدائمة أنها تدعم وحدة وأمن واستقرار لبنان، وأنها تقف مع خيارات الأشقاء اللبنانيين وما يحقق توافقهم وعلى مسافة واحدة من الجميع . على أن رفع يد السعودية عن الاستمرار في بذل الجهود لحل الأزمة هو في تقديري، أن السعودية بقيادة خادم الحرمين بذلت كل ما تستطيع في محاولة إيجاد مخرج للازمة، ولكن عندما شعرت بعدم وجود تقدم يفضي إلى حلول، كان لا بد أن تعلن موقفها بصراحة للجميع ، وهو نهج الملك عبدالله المتمثل في الوضوح والصدق والشفافية. ومع ذلك فتوقف السعودية عن المضي في المشاورات لا يعني بأي حال من الأحوال تخليها عن لبنان. فضلا عن أنها باركت الجهد القطري والتركي الذي لم ُيثمر هو الآخر عن نتائج مثمرة لحل الأزمة رغم انطلاقه من روحية الجهد السعودي السوري. والحقيقة أن الموقف السعودي ، جاء كرسالة للفرقاء اللبنانيين بأن يضطلعوا بمسؤولياتهم وان يغلبوا المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية والطائفية والمذهبية، وأن لا يرتهنوا لتأثير الخارج. على أن موقف الدبلوماسية السعودية الذي كان وما زال ينزع للتدخل في اللحظات الحاسمة لإنقاذ الموقف العربي من الانهيار وذاكرة التاريخ مليئة بالشواهد، وما زيارة الملك لدمشق وبيروت قبل بضعة أشهر، إلا تأكيد لرغبته وما يمليه عليه عقيدته وضميره وانتماؤه لأمتيه العربية والإسلامية من أجل تعزيز الصف العربي وحل قضاياه وهمومه. ولعل مبادرته للمصالحة العربية، كانت في تقديري بداية لبلورة مشروع عربي ، يرفض الاملاءات والضغوط، ويواجه ما يطرح في المنطقة من مشاريع إقليمية كانت أم دولية. هذا المشروع في اعتقادي يرتكز على تعزيز المصالحة العربية من أجل دعم المواقف العربية وحماية الحقوق العربية، وقبل ذلك إدارة الأزمات والخلافات العربية بالحوار والمصارحة، فضلا عن عدم السماح لأطراف خارجية من أن تخطف القضايا العربية. كما انه يريد أن يرى لبنان دولة تسيطر على كافة أراضيه, وترسخ السلم الأهلي مستندة على الدستور والشرعية واتفاق الطائف، وان لا يتحول ورقة ضغط أو ساحة مساومة لهذه الدولة أو تلك. جاء التحرك السعودي مع الأشقاء السوريين كمحاولة لإعادة بناء التضامن العربي بل وتفعيله، مستندة على رؤية منطقية مؤداها أن اختلاف وجهات النظر لا يعني أن تؤدي نتيجتها للقطيعة أو الخلاف. على أن المظلة العربية أو بالأحرى التفاهم السعودي_السوري، أو( س _ س) وفق تعبيرات نبيه بري ساهمت بالتهدئة آنذاك ، والحيلولة دون انزلاقه نحو الاحتمالات السلبية. وأرست معادلة لا للعنف ولا للسلاح، وان كان هناك ثمة خلاف فانه يُصار للاحتكام للمؤسسات الدستورية. نتج عن ذلك ضرورة بقاء حكومة سعد الحريري، والبحث عن طريقة لمعالجة تداعيات صدور القرار الظني. ومضت الأمور بهدوء حتى ظهر ما يُعكر مسارها، وذلك عندما شعر حزب الله بقرب الإدانة فاتجه إلى التصعيد والتأزيم، وأدخل البلاد في منعطفً خطير ليس بالسهولة الانفكاك منه، فالمحكمة الدولية وتمويلها فضلا عن قضية شهود الزور، ناهيك عن علاقة 14 آذار مع سوريا، كانت من عوامل التأزيم. وكانت المحصلة أن تعقد الوضع بانهيار المبادرة العربية بسبب تعطيل الطرف الآخر بعدم الالتزام بوعوده ونسف التسوية التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين بمباركة سعودية سورية، ليصل به الأمر بإسقاط الحكومة الشرعية ورفضه بعد ذلك تسمية سعد الحريري رئيسا للحكومة. ويبدو أن الأجواء المشحونة الحالية قد تدفع باتجاه تكرار سيناريو انقلاب 7 أيار ، فأحداث الأسابيع الماضية أعادت الأمور إلى المربع الأول، وما زالت البلاد تعيش ارتدادات زلزال الاغتيال، وما أفرزه من تجاذبات وانقسامات . يرى البعض بأن حالة الارتباك التي يعيشها الحزب بسبب ما ُنشر في بعض وسائل إعلام لبنانية من تسريبات تقول بأن القرار الظني يتهم الجناح العسكري لحزب الله وأشخاصاً يحملون الجنسية السورية. ولذا فهدفه هو إلغاء المحكمة، مع أن موضوعها ونتائجها بات بيد المجتمع الدولي، والجهة التي أنشأتها هي القادرة على إلغائها قانونا. صفوة القول، لا أحد يعلم إلى أين تتجه الأمور، لكن المعطيات على الأرض تشير إلى دخول لبنان لمنزلق خطير كما وصفه وزير الخارجية السعودي ، وبالتالي ففي تقديري انه لا يمكن حدوث انفراج سياسي ما لم يكن هناك اتفاق بين الأطراف الإقليمية على صيغة مشتركة بينها إزاء حل الأزمة. فضلا عن أن ثمة مسؤولية لا بد على العرب من أن يتحملوا أعباءها، وهي بناء سياسة عربية فاعلة إزاء القضايا المطروحة في المنطقة، بحيث لا تستطيع أية جهة غير عربية أن تملأ الفراغ بالنيابة، فالفراغ لم يأت من فراغ –إن جاز التعبير- بل جاء نتيجة للخلل الراهن من اختلال توازن القوى في المنطقة، ناهيك عن الخلافات والانقسامات وحالة التشظي ما بين العرب، وهي عوامل مغرية بالتأكيد للقوى الأخرى من أن تستغلها لصالحها، ولعل فشل المبادرة العربية خير برهان لهشاشة الموقف العربي . إذن فالمطلوب فعل عربي جاد، والتخلص من التبريرات المزيفة والحجج المغلوطة ولا بد أن نعترف أن هذه السياسة العربية غير موجودة، وأن غيابها جزء أساسي من الأزمة، وما لم يتم تفعيلها فإن الأمور ستتجه إلى الأسوأ. حمى الله لبنان.