كنا نعتقد أن سياسة الأحلاف والمحاور في طريقها للتلاشي لا سيما بعد الانفراج السياسي في العامين الماضيين ، لكن ما لبث أن تأزم الملف اللبناني والعراقي والفلسطيني وكأن بينهم قواسمَ مشتركة، وبدا أن ثمة محورا رئيسيا في المنطقة على ما يبدو قد استعاد نشاطه وتدخلاته لعرقلة العملية السياسية في هذا البلد أو ذاك ، ما جعل التنبؤ بالمسار الدقيق للأحداث مستحيلا، فالمنطقة مليئة بالملفات الساخنة والملعب بات مكشوفا. وما يرسخ هذا الشعور هو استقراء الأسباب، بمعنى انه حين العودة لجذور الإشكالية نجد أن اختلال توازن القوى في المنطقة بعد الغزو الأميركي للعراق، والاختلاف الواضح في مصالح الدول الإقليمية على ملفات المنطقة الشائكة، وعدم القدرة على التوصل لصيغة مشتركة بينها، من العوامل الرئيسية في بقاء المنطقة عرضة للتوتر والمخاطر والتهديد. والمؤمل من سورية أن تراجع سياستها الخارجية، وتتخلص من عقدة السعي لدور إقليمي، وتتوفر لها الإرادة السياسية بالقيام بدورها الفاعل في المنطقة مع السعودية ومصر على أن الملفت أن ملفات المنطقة كانت تسير بهدوء حتى ظهر ما يُعكر مسارها، فالأزمة اللبنانية تعيش الآن مرحلة حرجة، بعدما شعر حزب الله باحتمالية اتهامه من قبل المحكمة الدولية باغتيال رفيق الحريري، وأدخل البلاد في منعطف خطير ليس بالسهولة الانفكاك منه، فالمحكمة الدولية وتمويلها فضلا عن قضية شهود الزور،ناهيك عن علاقة 14 آذار مع سورية، من عوامل التأزيم. كما أن موقفه من رفض التعاطي مع المحكمة ميدانياً كما اتضح في مداهمته للعيادة النسائية في الضاحية الجنوبية قبل أيام مؤشرات على مواجهته للمحكمة بل وصل الأمر بالأمين العام للحزب إلى تحريضه اللبنانيين بمقاطعة الفريق الدولي المكلف بالتحقيق. فلو لم يكن للحزب دعم وتوجيه خارجي لما استطاع القيام بما قام به من ممارسات وتصرفات وتحركات بتلك الثقة والغطرسة. واتضح مما لا يدع مجالا للشك أن الإشكالية المزمنة للقرار السياسي اللبناني لابد وان يغلب عليها التأثير الخارجي، ، فعندما يتم تسخين الشارع من خلال صراع مذهبي بتأثير قوى خارجية، فإنه بالتأكيد سيمضي باتجاه تفجير الساحة. أما في العراق فقد تنفس الجميع الصعداء بإجراء الانتخابات وجاءت كبارقة أمل نحو تشكيل حكومة شراكة وطنية قائمة على أسس المواطنة ، إلا أن التدخل الخارجي أيضا ساهم وبامتياز في عدم توصل الزعامات السياسية إلى حلول تنقذ الانهيار الأمني والسياسي في العراق ، فإخفاق الكتل البرلمانية جاء نتيجة للإيعاز الخارجي، ما يعني أن الفراغ السياسي بات يلقي بظلاله سلبا على مقدرات البلد. كما أن المصالحة الفلسطينية لم تلبث أن تجددت بعودة دماء الحيوية لشرايينها، واقترب الطرفان من اتفاق، وتوافق على العديد من القضايا الرئيسية وكانا بصدد التوقيع على الورقة المصرية، ثم سرعان ما انقلبت الحال ، فاختلفا وعادت الاسطوانة المشروخة وأسلوب التخوين ، والتراشق الإعلامي، ووفق مراقبين فإن التدخل الخارجي هو من أفشل مشروع المصالحة بين حماس وفتح. على أن ما ذكرناه آنفا سيوصلنا إلى نتيجة مؤداها أن المحور المتشدد يبدو أن مفاعيله عادت من جديد ، بدليل تدخلاته الأخيرة جاعلا من لبنان الورقة الثانية بعد العراق من اجل تصفية حسابات وبعثرة الأوراق وشراء للوقت من أجل تعطيل المحكمة الدولية وإنجاز البرنامج النووي، ما يعني تقاطع مصالح ما بين طهرانودمشق. على أن من يتأمل طريقة التعاطي السوري مع لبنان في الفترة الماضية ، يشعر حقيقة بالاستغراب بدءاً بتصريحات حلفائها المتعددة ومرورا بالمذكرات القضائية وآخرها ما قاله رئيس الوزراء السوري عن قوى 14 آذار واصفا إياها بالهياكل الكرتونية، ويبدو أن دمشق لم تتخل عن تشدّدها أو تُغيّر من سلوكها القديم رغم أن خطابها الرسمي يؤكد على التعامل مع لبنان كدولة مستقلة، إلا أن أجواءً كهذه من الطبيعي أن تصب في اتجاه التصعيد والتأزيم في علاقة البلدين. أما إيران فدورها مثلا في العراق، والذي دخلته من الزاوية الطائفية وليست كدولة تعارض الاحتلال خاصة بعد ما كشفت تلك الوثائق السرية مدى تغلغلها في المشهد السياسي، يؤكد فعلا مخاوف دول الجوار على أكثر من صعيد، فالخليجيون يأملون في عراق مستقر وآمن وموحد ، وأن ما يجري داخله لا يكون على حسابهم، ولا يشكل تهديدا لأدوارهم الإقليمية. ويتزامن هذا بتجاهل أميركي لدور دول الجوار عدا إيران. ولم يعد سراً، أن تحالف سورية مع إيران أضعف شوكة التضامن العربي، وأوجد فراغا ما فتئت إيران تراهن على ملئه، وهو ما دفع السعودية إلى أن تتدارك الوضع بطرح مشروع المصالحة العربية وبتوفيرها الدعم لكافة القضايا العربية، وعدم السماح لأطراف إقليمية لخطف القضايا العربية من اجل أجندتها الخاصة، منطلقة من شعورها الصادق بواجبها تجاه الأشقاء وإحساسها بالمسؤولية الملقاة على عاتقها . والمؤمل من سورية أن تراجع سياستها الخارجية، وتتخلص من عقدة السعي لدور إقليمي، وتتوفر لها الإرادة السياسية بالقيام بدورها الفاعل في المنطقة مع السعودية ومصر، لأنها للأسف والى هذه اللحظة لم تترجم إشاراتها الإيجابية برغبة جادة وصادقة في العودة للحضن العربي، فهل نشهد صحوة سورية، وبالتالي إحياء محور الرياض والقاهرة ودمشق، ليقف سدا منيعا أمام المشروعين الأميركي والإيراني على حد سواء؟ صفوة القول إن الارتهان إلى لغة العقل والحكمة في حل هذه الملفات، يقتضي تعاونا استراتيجيا. فالخليجيون لا ينتظرون تطمينات إيرانية بقدر ما يرغبون في إنهاء أزمة عدم الثقة، وبإمكان دمشق أن تقوم بدور ما في التقريب ما بين طهران والعرب وذلك عبر فتح حوار بناء وشفاف من اجل بلورة رؤية مشتركة في إنهاء كل الملفات العالقة. ولعل الاستناد إلى قاعدة المصالح المتبادلة بإمكانها أن تحقق أرضية لحل الخلافات، إذ من حق كل دولة أن تبحث عن مصالحها بشرط أن تكون في إطار وضعها الصحيح، وهذا يهيئ المناخ لنشوء علاقات حسن جوار تساهم في إلغاء المحاور والأحلاف والانقسامات، ومع أن النوايا الحسنة ضرورية، لكنها لن تُشعل شمعة في الظلام طالما أنها لم تترجم إلى أفعال على أرض الواقع. والزمن هو الكفيل فقط بالإجابة على أي حال.