ننظر الى الصحف ووسائل الإعلام في مجتمعنا وقد امتلأت بالإعلانات عن الجامعات والشهادات التي يستطيع الواحد منا الظفر بها في وقت قصير. قد لا يستغرق في شهادة الدكتوراه سوى ستة أشهر فقط!!. ناهيك عن الشهادات المزورة والألقاب الممنوحة لأصحابها دون أحقية!!. هنا السؤال لماذا لا يوجد في أمريكا وأوروبا - كمجتمعات فردية - مثل هذا الطوفان؟ بكل بساطة لاختلاف الغرض من التعليم هنا عن هناك! في المجتمع السعودي تبدو أهمية التعليم فقط في الشهادة كغاية وأولوية كما أشرت في بداية المقال؛ وككسب لمزيد من الامتياز الاجتماعي والصيت والسمعة الحسنة وتجنب الفشل الذي لا يتعلق بالفرد بقدر ما يتعلق بالآخرين ونقدهم! فالشهادة مهمة للفرد وللجماعة أيضا والأهم الحصول عليها بغض النظر عن امتلاك المهارة والكفاءة!! بينما في أمريكا وأوروبا التعليم لا يتعلق بالآخرين وما سيضيفونه على الفرد من احترام عند نيل الشهادة! بقدر ما يتمحور حول ما يمنحه للفرد من فرص أفضل وتحفيز لطاقاته وقدراته! لذلك امتلاك الكفاءة أكثر أهمية من حيازة الشهادة. نقطة أخرى الطالب لدينا يخفق في دراسته فيلقي باللائمة على المدرس والمدرسة وأسرته، بينما في المجتمعات الفردية يلوم الطالب نفسه ويتحمل مسؤولية تقصيره. وذلك راجع الى أن الأفراد في الثقافات الجمعية يبررون سلوكهم بأسباب وعوامل خارجية كالحظ والآخرين، بينما في المجتمعات الفردية الفرد يتحمل مسؤولية سلوكه وعواقبه. التفكير النقدي سينمو ويزدهر كمنهج تفكير وطريقة تعلم في المجتمعات الفردية لأنها تعطي أهمية أكبر للفرد وآرائه حتى لو جاوزت المألوف بل إنها ترحب بتلك المخالفة وتراها الحاضن للإبداع والابتكار. بينما في المجتمعات الجمعية أعتقد من الصعوبة بمكان أن ينمو التفكير النقدي ويزدهر!! لأن الفرد لا بد أن يفكر كما تفكر الجماعة ويتبع خطاهم ونهجهم (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)!!. لذلك أقف كثيرا عند مسألة المناداة بتبني منهج أو طريقة التفكير النقدي في التعليم لدينا! لأني أعتقد أن طرفي العملية التعليمية من طالب ومعلم سيعانون كثيرا!!. ولا ننسى أمرا مهما آخر أن المعلم في المجتمعات الجمعية له السلطة بحكم (نموذج التابع والمتبوع) الذي تقوم عليه العلاقات في المجتمعات الجمعية. ففي دراسة للباحثة زكية منصور عام 2001 عن الاحترام من وجهة نظر الطالبات والمعلمات في السعودية. رأت المعلمات أن الاحترام يعني قوة شخصية المعلمة وتنفيذ تعليماتها حرفيا وعدم مخالفتها! مما يشير الى أن المعلومات ذات اتجاه واحد فقط من المعلم الى الطالب الذي يقوم بدور المتلقي فقط والمكرر لما يقال له. على عكس ما يحدث في المجتمعات الفردية حيث الطالب شريك في صنع المعلومة ويعترض ويجادل المعلم ويخالفه ويبدي رأيه ولو كان مخالفا لما يرى المعلم، والمعلم نفسه لا يتوقع من الطلاب السلبية في التلقي! بل يعتبر السلبية من الطالب مؤشرا لفشله كمعلم في تحقيق شراكة النمو المعرفي والإنساني بينه وبين طلابه. أيضا لدينا يخرج الأستاذ في الجامعة من القاعة ليجد عددا من الطلاب يتبعونه لا ليسألوا عن المادة وإنما لطلب تأجيل الاختبار مثلا أو التخفيف والحذف من المنهج!. لتصبح مفردة "الحذف" ذات وقع كالسحر في نفوس الطلبة للأسف! وعبثا يحاول الأستاذ اقناع الطلبة بأهمية دراسة المنهج كاملا وأن الحذف يؤثر على تمكن الطلبة من المادة! ولا آذان صاغية! وذلك لأن التعليم كما أسلفت والمهارة ليست هدفا مهما بقدر النجاح والشهادة. بينما في المجتمعات الفردية تجد الطالب ربما يقضي معظم وقته في قراءات خارجية حرة مرتبطة بالمادة الدراسية! من كل ما سبق لعله اتضح لنا أهمية الثقافة وتأثيرها ومع الاندفاع المحموم لتطوير التعليم لا بد أن لا تغيب عنا مثل هذه الحقائق. وفي بحث شائق ومختلف للدكتور عبدالله الرويتع تناول فيه ثقافة المجتمع وعلاقتها بالعملية التعليمية أشار إلى أهمية الأخذ بالاعتبار ثقافة المجتمع الذي سيتم الاستعانة بتجربته لتطوير التعليم في السعودية. وشدد على الأهمية القصوى للتدقيق في هذه التجارب وتقييم مدى ملاءمتها للبيئة السعودية. من ناحية أخرى أعتقد أنه من الصعوبة بمكان التخلص من الجمعية وتأثيرها في المجتمع ولكن لعل أضعف الإيمان محاولة جادة لتقليص تأثيراتها الى أدنى حد ممكن على التعليم. المدرسة لدينا الآن هي انعكاس للمجتمع والمدرسة تمارس نفس ضغوطه على الأفراد والمتمثلة في الانصياع وخلق أفراد متشابهين منقادين للجماعة! والمنبوذ هو من يشذ نهج المجتمع ويختلف حتى لو كان اختلافه مثمرا وبناء! وفي اليوم الذي تكون لدينا المدرسة بيئة صحية للنمو الفردي والتمكن من التفكير العلمي وزرع الاستقلال الفكري واكتشاف الذات وتطوير الملكات. نستطيع حينها القول ان تعليمنا سيكون بخير وأنه بدأ مشوار التعافي والنهوض المجتمعي بإذن الله. * قسم علم النفس "علم نفس اجتماعي" جامعة الملك سعود