منيرة جمجوم تربوية وخبيرة في التعليم، طرقت فنوناً عدة في المناهج التعليمية وخرجت بكتاب سمّته «خواطر جريئة عن التعليم السعودي» وكان نصيبه عدم الفسح، وعن ذلك تقول في حوار مع «الحياة»: «ما زلت أجد صعوبة في الحصول على الفسح لتوزيع الكتاب في المملكة! وهذا أمر مؤسف للغاية، بل ويؤلمني كثيراً لأنني منذ البداية عاهدت نفسي على تدوين هذه الأفكار من منطلق المواطنة وإيماني بأهمية طرح وجهات النظر المتعددة عن الواقع التعليمي وعرضها للرأي العام». وهو ما جعلها تهتم أكثر بتسليح نفسها بالعلم والمعرفة، فسافرت لإكمال دراستها وحصلت على دورات وحضرت مؤتمرات مختلفة ما مكّنها من أن تكون لها رؤيتها الخاصة، التي تطرح شيئاً منها في هذا الحوار... فإلى التفاصيل يشعر البعض أن التعليم عندنا مختطف، وخاطفوه في المجتمعات كثر.. ما رأيكِ؟ - لا أعتقد أن التعليم مختطف، بل أعتقد أنه «تائه» كمن يدور حول نفسه لسنوات طويلة، حتى سقط أخيراً في الحفرة التي حفرها بيديه. وقد أعلن المجتمع السعودي أخيراً حالة استيائه من التعليم حين دق ناقوس الخطر، وذلك بارتفاع معدل البطالة وانخفاض المستوى العلمي للمتخرجين من التعليمين العام والعالي معاً. إن الشواهد على ضعف مستوى مخرجات التعليم كثيرة، إذ تظهر معايير هذا الإخفاق محلياً ودولياً. فالإحصاءات المحلية تؤكد هذه الحقيقة المؤلمة التي لم تعد قابلة للتشكيك، وقد تبين ذلك الإخفاق في أهم معيارين للنجاح في عالم اليوم وهما اللغة الإنكليزية والرياضيات. أما دولياً فالمملكة غالباً ما تحصل على مواقع متدنية في الاختبارات الدولية. ومع ذلك أرى أنه من الضروري أن نعتبر هذه الاختبارات بمثابة أحد المؤشرات التي تدل على أن نظام التعليم في المملكة العربية السعودية يعمل في «معزل عن العالم الدولي والمحلي»، أي كما وضحت سابقاً «يدور حول نفسه»! هل تشعرين أن وزارة التربية والتعليم مستقلة في توجيه مسارات التربية والتعليم لدينا؟ - نعم ولا ... أجيبك بنعم من حيث إن الوزارة اتخذت ولفترة طويلة الأسلوب «المركزي» في فرض القرارات على العاملين فيها والمتأثرين بها من مدارس ومعلمين وطلبة على حد سواء. وقد أثرت هذه المركزية في قدرتها على التعاون مع وزارات أخرى مثل وزارة التعليم العالي التي تكاد تكون هي الأخرى مستقلة عن التعليم العام وأهدافه. والتنسيق بين هاتين الوزارتين على حد علمي لا يزال يشكل مشكلة تعرقل عملية التطوير والإصلاح. لكنني أيضاً أجيبك ب«لا» من حيث إن الوزارة وعلى رغم مركزيتها تخضع لضغوط محلية من مؤسسات مختلفة في المجتمع وأهمها المؤسسة الدينية التي ظلت ولفترة طويلة تقيد عملية تعليم البنات، ومناهج البنات وما إلى ذلك. لكنني أرى اليوم أن الوزارة أصبحت تتجه كثيراً إلى أخذ النصائح الدولية والعالمية والاستفادة من التجربة الأجنبية، فهي كمؤسسة تستعين بمراكز البحوث الاستراتيجية الأميركية مثل بووز آند كو، وماكينزي ونحوه. وهذه خطوة إيجابية فعلاً، خصوصاً إذا قرنت بالاهتمام بالدراسات الاستراتيجية المحلية. فالتجربة الأجنبية لا تغنينا عن الرؤى المحلية. أهم ما يميز العالم المتقدم ويقف خلف إنجازاته هو وجود أنظمة ناضجة تجعل المؤسسة فوق الفرد. أما في عالمنا فلا يزال الفرد هو الأساس .. ما الحل؟ - عندما يكون الفرد هو الأساس فهذا دليل قطعي على غياب «خطة عمل جماعية» وغياب رؤية استراتيجية تحدد أهداف المؤسسة. وهذا هو تماماً ما يفتقر إليه التعليم في السعودية : الخطة الاستراتيجية الواضحة التي تحدد أهدافنا وبالتالي مسارنا... فإن تركنا الخطة وأهملناها أصبح العمل عشوائياً، ما ينعكس على المؤسسة فتكون ضعيفة أمام أهواء الفرد. أما إن كنا نعمل وفق خطة محكمة فسواء تغير الأفراد أو بقوا فالهدف واضح ومحدد. والنقطة الثانية تكمن في أهمية إشراك المجتمع بكل شرائحه في الخطة الاستراتيجية المأمولة للتطوير. فما فائدة الخطة إن بقيت «حصرية» لمن يعمل في مجال تطوير التعليم دون عرضها على شرائح المجتمع المتأثرة بالتعليم؟! فمعظم الدول الأجنبية المتقدمة تعتمد أسلوب الشفافية والحوار في طرح خطط التعليم المستقبلية. فحصرية الخطط والأهداف في العالم العربي من مؤسسات التعليم في اعتقادي من أهم أسباب فشل تلك الخطط من الأساس. لكننا أخيراً بدأنا نعتمد أسلوب المشاركة والشفافية، فمشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم مثلاً يخطو خطوات جيدة باتجاه إشراك شرائح مختلفة من المجتمع في تطوير التعليم والاستماع لآرائهم من خلال البحث الميداني الجاري في مناطق مختلفة من المملكة. عندما قرأتِ ملاحظات وانتقادات الغرب لمناهجنا الدينية.. ماذا كانت ردة الفعل الأولى لكِ.. وهل التغيير يعد تبعية لهم؟ - لا.. لم أستغرب من انتقاداتهم فيما يتعلق ببعض التفسيرات العدوانية لسلوك المخالف - سواء كان هذا المخالف مسلماً أو كتابياً - التي أشاروا إليها في المقررات الدراسية لأنها بالفعل موجودة، إذ إن المنهج مبني على تغليب أحد جوانب النص وإهمال جوانب أخرى ويترتب على ذلك تشويه لمعنى الدين. وقد نوقش هذا الموضوع في ملتقى الحوار الوطني الثاني في مكةالمكرمة، إذ ركز الباحثون على أهمية مراجعة توازن الخطاب الديني لإعادته نحو استيعاب مجمل النصوص وفقاً لقيم الدين الأساسية. ومما لا شك فيه أن المقررات الدينية متحيزة لبعض النصوص على حساب البعض الآخر، كما أنها لم تنجح في تقديم رؤية متسقة لكثير من القضايا التي تهم الشباب، بل الاضطراب والتناقض هو السائد في عرض هذه المقررات. فتارة يتحدث المنهج عن الآداب الإسلامية الرفيعة، ثم يعود ليقدم مواقف مناقضة في حديثه عن التعامل مع المخالفين. فيعرض بعض ممارسات المسلمين بمبالغة وتهويل. فيقول مثلاً في مقرر التوحيد الصف الثالث الثانوي في القسم الشرعي: (الاحتفال بمناسبة المولد النبوي هو تشبه بالنصارى.. فيحتفل جهلة المسلمين أو العلماء المضلون.. ويحضر جموع كثيرة من دهماء الناس وعوامهم.. ولا يخلو من الشركيات والمنكرات.. وقد يكون فيها اختلاط الرجال بالنساء، ما يسبب الفتنة ويجر إلى الوقوع في الفواحش)، وبعد أن يصنف المخالفين يحدد أساليب التعامل معهم مثل تحريم زيارة المبتدعين ومجالستهم وافتراض تواطئهم مع ما يسمونها ب«دول الكفر». فلغة المفاصلة والتشكيك والتضليل تشكل خطراً في اعتقادي على تكوين الطالب السوي. لكنني استغربت من السياسة الأميركية تحميل هذه الكتب والمقررات ما لا تحتمله «ربط الكتب المدرسية بالعنف والتطرف»، وكأن الكتب هي السبب الأساسي وراء تفاقم ظاهرة الإرهاب.. وتجاهلهم وتغاضيهم عن أسباب أخرى مثل سياستهم الخارجية مع العالم العربي والإسلامي.. وموقفهم تجاه القضية الفلسطينية.. والفقر والبطالة ونحوه. أما بالنسبة لقضية التبعية؛ فأنا لا أعتقد أن التغيير تبعية لهم بقدر ما هو فرصة لمراجعة أنفسنا والعمل على ترسيخ مفاهيم الاختلاف الذي هو سنة كونية باقية إلى يوم الدين (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) هود 119. لولا 11 سبتمبر.. لما شهدت مناهجنا فورة التغيير.. هل تتفقين مع هذا الرأي؟ - هنا يجب أن نقف وقفة لنميز بين حدثين: الأول هو «الحذف» و«التعديل» في مناهج التربية الإسلامية، والآخر، هو عملية الإصلاح والتطوير التي تشهدها مناهجنا عموماً. أما بالنسبة للحدث الأول فيما يتعلق بالحذف والتعديل فهذا بالطبع جراء ما حدث في 11 سبتمبر والضغوطات السياسية الأميركية التي تلتها. أما فورة الإصلاح والتغيير في مناهجنا بصفة عامة فهي بسبب المشكلات والتحديات المحلية مثل ارتفاع معدلات البطالة وإخفاق التعليم العام والعالي بصفة عامة. أي أن التغيير الأول كان بدافع سياسي والثاني بدافع اقتصادي اجتماعي. صورتنا في مناهجهم هل هي أشد أم أخف من صورتهم في مناهجنا؟ - مناهجهم فيها شح في المعلومات عن الإسلام والمسلمين بصفة عامة. لا يوجد فيها أي نوع من الإساءة على الإطلاق، لكنها تتسم بقلة المعلومات عن الإسلام وما يتصل به. معظم دراستهم عن الإسلام تتمركز حول ما يسمونه ب«الحضارة الإسلامية» التي تدرس مع حضارات العالم المختلفة؛ ولذا أعتقد أن الإعلام الأميركي بصفة خاصة يعاني من نمطية شديدة تجاه المسلمين، وهذه النمطية تنبع من جهل بالإسلام وليس رغبة في الإساءة إليه إلا ما ندر. أما مناهجنا ففيها إساءة واضحة للغرب، ولكل مخالف حتى وإن كان من المسلمين، وذلك بسبب انعدام مفهوم «التعددية» وحرية الاختيار (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس 99. كما أذكر أن وزارة التربية والتعليم أصدرت قراراً في عام 2009، بسحب بعض الكتب من المكتبات المدرسية، تحمل أفكاراً مخالفة (كما تقول)، منها كتب سيد قطب والبنا، والتي اعتبرت أنها تحوي تحريضاً وفكراً مخالفاً.. وللأسف فإن أسلوب القمع الرقابي لا يليق بالقرن ال21، فيجب أن يكون للطالب حرية اختيار الكتب التي يقرؤها.. فبدلاً من أن يتم سحب هذه الكتب من المدارس كان من الممكن أن «تدرس» في الفصل من منطلق تحليل الفكر الإسلامي المطروح فيها، وشرح الظروف السياسية التي شهدتها مصر في تلك الفترة، ونقد آراء الكاتب شأنها شأن أي كتاب آخر في الفكر الإسلامي. مناهجنا للاختبار فقط. متى سنزيل هذا المفهوم؟ - لن ينقرض هذا المفهوم حتى نعامل «المنهج» معاملة الحياة، فيكون المنهج هو الصوت والصورة التي تعكس حقيقة الحياة الاجتماعية والنفسية والسياسية والعلمية والدينية بكل تناقضاتها. فالمنهج السعودي مبني على المبادئ الثانية الصارمة فتصبح الحقائق والآراء محصورة في نطاق الصواب والخطأ، الأبيض والأسود، والحلال والحرام. أما الحياة فهي نسبية موضوعية لا مكان فيها للفكر الثنائي الصارم، فكل شيء قابل للنقاش والتحليل وحتى الرفض أو القبول. وقد تحدثت عن أهمية «الفكر النسبي» في قضية تطوير التعليم؛ لأن العلوم الإنسانية في الأصل كلها نسبية، وعندما يتم عرضها في المقررات على أنها حقائق بحتة يتحول المنهج إلى «ملزمة» تحدد للطالب الجواب الصحيح على شكل جملة أو كلمة يتم حفظها للاختبار ورميها في سلة المهملات بعد الانتهاء منه. مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم.. ما الذي تسمعين عنه وأنتِ هناك؟ - كنت من المحظوظين الذين حضرواً أخيراً ورشة عمل حصرية في جامعة أكسفورد تحدث فيها المشاركون من دول مختلفة عن تجربتهم في إصلاح التعليم. وكان من بينهم الدكتور علي الحكمي الذي تحدث عن «مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم». وعلى ما يبدو، فإن المشروع في رأيي يتجه نحو الاتجاه الصحيح من حيث اهتمامهم بوضع رؤية وطنية للتعليم بعد أن يتم تقويم وضع التعليم الراهن. كما أن العاملين في المشروع يقومون بوضع خطة استراتيجية للنهوض بالتعليم ومدة زمنية لتنفيذ الخطة. وقد أعجبني اهتمامهم بتفاصيل إدارة التغيير من حيث تفكيرهم في أهمية وجود حملة إعلامية تشجع المجتمع على المشاركة في رؤية التعليم المطروحة للمستقبل. ما أتمناه حقاً هو أن يحقق هذا المشروع أهدافه المطروحة دون أن يقع ضحية لفلسفة «التحديث» التي تحصر التطوير في التقدم التقني عوضاً عن التقدم الفكري. خواطر جريئة في التعليم بعد كتابك (خواطر جريئة في التعليم)، ما ردود فعل المجتمع التربوي؟ - الحقيقة أنني لم أتابع ردة الفعل من التربويين المحليين؛ لأنني ما زلت أجد صعوبة في الحصول على الفسح لتوزيع الكتاب في المملكة! وهذا أمر مؤسف للغاية، بل ويؤلمني كثيراً لأنني منذ البداية عاهدت نفسي على تدوين هذه الأفكار من منطلق المواطنة وإيماني بأهمية طرح وجهات النظر المتعددة عن الواقع التعليمي وعرضها للرأي العام. لكن العوض على الله كما نقول! ومع ذلك فإن التوفيق من الله سبحانه وتعالى، فكثيراً ما تصلني رسائل إلكترونية ومكالمات هاتفية من بعض المسؤولين والمواطنين العاديين الذين شاركوني مشاعري وهمومي التي طرحتها في الكتاب.. وهذا يكفيني. لدينا كفاءات كثيرة ومميزة.. كيف يتوصل إليهم المسؤول لرؤيتهم؟ - المسؤول يعرف الكفاءات الموجودة؛ فالعمل الجيد يتحدث عن نفسه، لكنه ما زال يخشى وضع المسؤولية على عاتق الكفاءات المحلية. ولكل من يريد أن يتوصل إلى الكفاءات المحلية أقول: تابعوا الإعلام الغربي! من يجرب تعليم الغرب لأطفاله، لماذا يشفق على تعليم أطفالنا هنا؟ - لأن تعليم الغرب يحرر العقل.. وتعليمنا يعتقله. وهل يستوي الحر والمعتقل؟ في رأيك، أين يبدأ الإصلاح في التعليم، في تطوير المناهج أم في تطوير دور المعلم؟ - أولاً.. أنا لا أعتقد أن مسألة الإصلاح يمكن حصرها بين هذا أو ذاك.. فنحن كما ذكرت سابقاً بحاجة إلى فلسفة جديدة تحدد مسار مؤسساتنا التعليمية. لكنني وعلى رغم ذلك أؤمن بأهمية المعلم ودوره المحوري في قضية الإصلاح. فمهنة التعليم تعد من الممارسات الاجتماعية التي لا جدال في أهميتها، ومع ذلك هي موضع نقاش مستمر. فعلى رغم أن أكثر عمل المعلمين يجري داخل حدود الفصل، إلا أن آثاره نادراً ما تبقى عند حدود الباب، إذ يصبح المعلم جزءاً من حياة الطلاب الفردية، ويكون له دور مهم ليس فقط في محتوى ما يتعلمه الطالب بل في نظرته لماهية التعليم ككل. فهناك من يعلم الطلاب أن التعليم هو (الحفظ)، وهناك من يعلم الطلاب أن التعليم هو (الفهم)، وهناك من يعلم الطلاب أن التعليم هو(التطبيق)... كل بحسب فلسفته الشخصية.. وهذا ما أثبتته التجربة الفنلندية في تطوير التعليم، إذ انصب جل اهتمامهم على المعلم الذي يعتبر العنصر الأهم في تطوير التعليم، إضافة إلى أن رواتب المعلمين مرتفعة نسبياً هناك، ما يجعل من مهنة التدريس مهنة مرموقة تجذب إليها أفضل الناس. على عكس ما يجري في دولنا العربية، إذ يتجه كل من حصل على معدل منخفض أو من لم يجد وظيفة أحلامه إلى مهنة التدريس؛ لذا نحن بأمس الحاجة إلى مؤسسات تعليم عال جديدة ومستقلة تهتم بإعداد معلم المستقبل. وكما أراها يجب أن تكون أهدافها كالتالي: سياسة انتقاء جديدة للطلاب الذين يتقدمون لكليات التربية من الناحية العقلية والنفسية والشخصية. الاهتمام بثنائية اللغة والجانب الثقافي لمعلم المستقبل إنتاج معلم خبير في مادته العلمية. إنتاج معلم خبير في مادته التربوية عن طريق الاهتمام بالجوانب التطبيقية. دور المعلم كباحث تربوي من خلال تدريس مفردات البحث التربوي التي لابد أن تكون ضمن برنامج إعداده وتدريبه. مجتمع محافظ .. بلا اخلاق على اعتبار أننا مجتمع محافظ، إلى ماذا نعزو انتشار الفوضى الأخلاقية في المدارس؟ - نحن مجتمع محافظ، لكننا أيضاً مجتمع «متناقض» نردد أهمية التمسك بالأخلاق الإسلامية السمحة نظرياً، ثم نقتل هذه الهتافات فعلياً.. فنفرق بين المرء وزوجه بسبب القبلية والعصبية، وننعت فئات أخرى بالفرق الضالة، وأخرى بالمبتدعة، وأخرى بالملعونة، وأخرى بالفاسقة. مفردات الإساءة والتنميط في مجتمعنا تطغى على مفردات الحب والتسامح والأخوة. وهذا التناقض يؤدي إلى اضطراب في التكوين الأخلاقي للطالب ويضعه في مأزق يصعب معه تكوين موقف متوازن تجاه ما يواجهه من معضلات أخلاقية. في رأيك، ما أهم تأثيرات الطفرة النفطية على قيم الإنسان الخليجي؟ وهل زيَّن النفط شوارعنا وشوه دواخلنا؟ - لقد سبق أن كتبت في كتابي أننا نعاني من حالة إدمان نفطي الذي توج القيم الاستهلاكية عوضاً عن القيم الإنتاجية في المجتمع، وأصبحت القيم السائدة ترتكز على الثروة والاقتناء والاستهلاك.. لكنني ربما أود أن أصحح نفسي وأقول إننا الآن في مرحلة «ما بعد الإدمان».. أي مرحلة التأهيل وهي الأصعب والأمر، فالإعلام والمجتمع بصفة عامة مدركان أن ثروات النفط موقتة، وموضوع الاستغناء عن نفط الخليج متداول علنياً في الإعلام اليوم. لكن التأهيل والخروج من حالة الإدمان بحاجة إلى عزيمة قوية وإصرار وتوعية لأن المدمن غالباً ما يعود لحالة الإدمان إن لم تتوافر له «خدمات إعادة التأهيل المناسبة».. وفي حالة الإدمان النفطي فنحن في أمس الحاجة إلى خدمات ترتقي بالمجتمع إلى حالة التوازن مثل التعليم الحر والمستقل الذي يحرر العقل. وجود مؤسسات المجتمع المدني التي تسهم في التطور الاجتماعي والاقتصادي وتدعم التنمية بشكل عام.. حرية الإعلام والسماح له بطرح قضايا المجتمع الحساسة..تعزيز «الحوار الوطني» والاستمرار في الحوار المشترك بين أفراد المجتمع ومؤسساته عن الهوية السعودية المعاصرة وما تواجهه من تحديات. هل الإنسان السعودي يعي معنى المواطنة؟ ومن خلال تجربتك الدراسية في الخارج هل ستحدِث برامج الابتعاث تأثيراً في تكوين هذا المفهوم لدى للشباب والفتيات؟ - مفهوم المواطنة مشوه لدى الإنسان السعودي، وهذا يعود لأسباب عدة: أولها في اعتقادي هو تغييب الحوار حول «الهوية السعودية» لفترة طويلة جداً، فمعنى المواطنة لا يأتي بالقطرة! فإذا قمنا باستفتاء عشوائي في الشارع مثلاً، وطرحنا على المارة الأسئلة التالية: ماذا تعني لك كلمة «أنا سعودي»؟ من السعودي في اعتقادك؟ أجزم لك أن الغالبية لن يتمكنوا من الإجابة عن هذه الأسئلة، بل سيقف معظمهم لحظات للتفكير في السؤال الذي لم يخطر ببالهم من قبل ليفكروا: فعلاً.. ما معنى أنا سعودي؟ ثانياً، تغييب الحوار عن الهوية السعودية أدى إلى ظهور أنواع أخرى من الانتماءات مثل الانتماء للمنطقة والمدينة والقبيلة والأسرة عوضاً عن الانتماء للقاسم المشترك بينهم وهو الوطن... فهناك الحجازي والنجدي والقصيمي مثلاً.. لكن كلمة «السعودي» لا تظهر إلا في جواز السفر والبطاقة... وهذا مؤسف للغاية. نعم، أعتقد أن برامج الابتعاث ستعزز من مفهوم المواطنة؛ لأن الغربة بشكل عام تساعد الفرد في التشبث بهويته والبحث عنها في عالم تنصهر فيه الحضارات.. كما أعتقد أنها ستنمي عند الطالب والطالبة مفهوماً جديداً للمواطنة من خلال احتكاكهما بأجناس مختلفة من الناس يعون معنى المواطنة ويشاركون في تنمية أوطانهم. لكن المواطنة في الدول الغربية ليست صامتة، بل تتسم بالحركة والمشاركة الفعلية بالصوت والجسد من أجل نمو الوطن وسيادته، وهنا، في هذه النقطة بالتحديد أعتقد أن الشباب السعودي قد يواجه بعض العقبات عند عودته للوطن.. لأننا محلياً ما زلنا نتجاهل ونرفض هذا المفهوم من المواطنة. عرضت في خواطرك الجريئة تجربتك في دراسة تاريخ المملكة.. ما الذي نفتقده لنجعل حصة التاريخ أكثر متعة وفائدة؟ - مناهج التاريخ عندنا موبوءة بداء «الحفظ» وتكدس المواضيع الجافة التي تفتقر إلى الروح والأسلوب القصصي الممتع. فمادة التاريخ يجب أن تحوي المعنيين «التاريخ» و«التأريخ» وإلا فقدت مصداقيتها. «التاريخ» هو أحداث الماضي، وبالتالي هو القصص التي شكلت حاضرنا بما فيها من انتصارات ونكسات وحب وخيانة وصدق وكذب.. أما «التأريخ» فهو عملية كتابة التاريخ وتسجيل هذه الأحداث وتدوينها.. والتأريخ عملية بشرية، ما يعرضها للصواب والخطأ. وبالتالي يحتم علينا تدريس التاريخ لأطفالنا بعين فاحصة، إذ نعلمهم أن لكل قصة وجهين أو أكثر وأن لكل حدث في التاريخ أخباراً وروايات وحكايات متعددة تختلف باختلاف رواتها؛ وهذا ما نسميه بالتفكير الناقد الموضوعي الذي سيساعد أبناءنا في فهم ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم بصدق وعمق. وأنا لا أرى عيباً في ذلك.. إلا إذا اخترنا أن نعيش الوهم الذي نسميه نحن بالتاريخ. أما النقطة الثانية هي أن الطفل السعودي لا يدرس عن الأحداث المهمة في تاريخ وطنه.. فالمناهج لا تذكر حادثة حصار الحرم المكي وحرب الخليج وتاريخ تعليم المرأة في السعودية والقومية العربية مع أنها مواضيع مثيرة ومفيدة وغنية بالدروس والحكم. نحن نرفض مواجهة تاريخنا بمصداقية، ونختار الهروب من الواقع الذي جسدناه في مناهج التاريخ.. فخسرنا انتباه طلابنا.. وخسرنا هويتنا. مدارسنا والفلسفة هل تتوقعين أن تغييب الفلسفة عن مدارسنا وجامعاتنا جعلت الدراسة في التعليمين العام والجامعي بلا روح؟ - الصراع بين الإسلام والفلسفة قديم جداً يعود إلى الصراع بين الأشعرية والمعتزلة ومفاهيمهم المختلفة لعلم الفلسفة، لكن سحب الروح من التعليم لم يأت من تغييب مادة الفلسفة، بل أتى من تغييب الفكر الفلسفي وتحريمه. حتى إن وجدت في مناهجنا مادة تسمى «بالفلسفة» يدرس فيها الطلاب أفكار الفلاسفة العظماء نظرياً، ما سيحدث فعلياً هو حفظ للمعلومات فقط.. متى ولد بلايتو؟ ما جنسية الفيلسوف أرسطو أو ابن رشد؟ من ألف كتاب مينو؟ دون ممارسة للتفكير الفلسفي والمنطقي. حتى أننا في حديثنا اليومي دائماً ما نردد «بلا فلسفة» لكل من يتعمق في تفاصيل موضوع ما، مع العلم أن هذا المصطلح ليس له ما يوازيه بالإنكليزية مثلاً. وقد حضرت أخيراً حصة تربية إسلامية سألت فيها المعلمة السؤال التالي: اذكري بعض أسباب انحراف العقيدة؟ فأجابت إحدى الطالبات «قراءة كتب الفلسفة من غير كتب السلف الصالح» فردت المعلمة: «أحسنت». فإن كنا نحرم الفكر الفلسفي من الأساس، فكيف نتوقع من أبنائنا أن يفكروا خارج النطاق المألوف ليبدعوا؟ لا أعلم. تتهم مناهجنا بأنها تقدم المرأة بصورة غير فاعلة، فما زالت زينب تكنس ومريم تطبخ؟! - لا عيب في أن تكنس زينب وتطبخ مريم، فأنا كامرأة أكنس وأطبخ لكنني أرفض أن يكون هذا هو الجانب الوحيد الذي يراني من خلاله الرجل. فالمرأة أكثر من ذلك بكثير، فهي الطبيبة والعالمة والمفكرة والكاتبة والإعلامية والمعلمة والمحامية والمديرة. لكن المنهج كما تفضلت لا يسلط الأضواء إلا على دور المرأة في المنزل و«خدمتها لأسرتها» متجاهلاً «خدمتها لمجتمعها» خارج المنزل. لكن اختزال الأدوار وتنميطها شملا كلاً من المرأة والرجل من خلال حصر أدوارهما في صور جنسية، وكأننا كائنات غرائزية بيولوجية نفتقر إلى العقل والمنطق... فالمرأة أصبحت «أنثى»: زينة ومنظر وجسد والرجل «ذكراً»: رغبات بيولوجية مبررة. ما نريده لأجيال المستقبل هو صورة مختلفة عن علاقة الرجل بالمرأة، صورة يسودها الاحترام وتقدير العقل قبل الجسد.. كفانا حصراً لإنسانيتنا في بوتقة الجنس!