هل قرأت آخر مقال؟ ... فرغم وجود العديد من الآيات القرآنية التي تثبت كروية الأرض.. ورغم أن الشمس والقمر وبقية الأجرام السماوية تملك اشكالا كروية يمكن مشاهدتها بسهولة.. ورغم وجود الكثير من الأدلة الجغرافية والمناخية التي لا يمكن حدوثها على أرض مسطحة.. ورغم أن الصور الفضائية حسمت كروية الأرض بشكل نهائي؛ إلا أن الأرض عادت للتسطح هذه الأيام بفعل العولمة والانترنت والاتصالات الفضائية وسهولة التواصل بين شعوبها المختلفة.. فحتى مئة عام مضت كانت الأرض كروية ومحدبة بحيث يصعب علينا معرفة ما يوجد على الجانب الآخر.. كما كانت شاسعة ومترامية الأطراف بحيث عاش الناس معظم حياتهم ضمن دائرة قطرها كيلو مترين فقط.. أما المعارف فكانت محدودة ووسائل الاتصالات معدومة بحيث لم يعلم معظم البشر بوجود غيرهم على بعد عشرين كيلومترا فقط. أما هذه الأيام فتغير الوضع تماما حيث أصبحت الأرض مسطحة (ومكشوفة) على كافة الشعوب والثقافات.. كما غدت صغيرة (وملمومة) بفضل توسع معارفنا الجغرافية وتواصلنا الآني مع القارات البعيدة.. بل وأصبحت قريبة (ومتاحة) بفضل قدرتنا على السفر خلال ساعات وتبادل المنتجات والخدمات مع الطرف الآخر من الكوكب! ورغم أن فكرة هذا المقال خطرت ببالي أثناء كتابتي لآخر مقال، إلا أن تسطح الأرض (بفعل العولمة وتقنيات التواصل) قضية قرأت عنها قبل سنوات في كتاب من تأليف الصحفي الأمريكي توماس فريدمان. وحسب ماجاء في كتاب (الأرض مسطحة) خطرت الفكرة لفريدمان أثناء سفره للهند لإعداد تقرير عن تكنولوجيا الأعمال وخدمات الاتصال التي بدأ الهنود يتفوقون فيها ويستقطبون من خلالها شركات تعمل في أمريكا وأوروبا. وأثناء وجوده داخل شركة تقنية هندية شاهد في مكتب المدير (نيلكاني) شاشة ضخمة يتم من خلالها عقد اجتماعات مباشرة مع مديرين آخرين من نيويورك ولندن وبوسطن وسان فرانسيسكو.. وحين عبر فريدمان عن إعجابه بقدرة الشركة على التواصل الآني مع شركائها حول العالم قال نيلكاني باعتزاز "هذه هي العولمة يا فريد، فالعالم أصبح بمثابة ملعب مسطح".. ومن هذه الجملة فكر فريدمان بتأليف كتاب يناقش فيه تسطح الأرض نظريا بفعل العولمة، وتبادل الخدمات بطريقة أفقية، وانتقال الأعمال بطريقة إلكترونية حول الكرة الأرضية.. ويشير فريدمان إلى أن العالم أصبح مسطحا نتيجة عوامل عشرة (من أهمها): سقوط حائط برلين وتفكك حلف وارسو القديم، ثم انطلاق خدمة البحث على الانترنت عام 1995 وما أعقب ذلك من ثورة معلوماتية وتجارة الكترونية، ثم سعي الشركات العملاقة لتحقيق مكاسب إضافية من خلال التجارة الإلكترونية وتوظيف عمالة مؤهلة تسكن البلدان البعيدة والرخيصة (مثل الهند والصين والبرازيل). والنتيجة الحالية هي سقوط المفاهيم الصناعية والاقتصادية القديمة حيث أصبحت الأعمال والوظائف والصناعات تنتقل إلى حيث تنجز بشكل أرخص (دون التقيد بحدود سياسية أو روابط قومية).. فالمنتجات لم يعد لها ارتباط قومي، والتسويق لم تعد تحده المسافات، والمعلومات أصبحت حقا مشاعا للجميع، والأرباح ورؤوس الأموال تنتقل "بضغطة رز" دون الالتزام بحدود سياسية أو قوانين حكومية. ببساطة شديدة؛ العالم ينتقل حاليا من مرحلة القيادة والسيطرة، إلى مرحلة الاتصال المفتوح والتعاون المشترك، وبالتالي لا يمكن لأي إنسان فهم القرن الواحد والعشرين إن بقي يفكر بعقلية القرن العشرين (ناهيك عن التفكير بعقلية قرون أقدم من ذلك بكثير)! ورغم حماس فريدمان لظاهرة التسطح العالمي، إلا أنه يعترف بأن العالم لن يكون مسطحا بالكامل قبل فترة طويلة من الزمن.. فرغم كل عوامل الانفتاح والعولمة ستبقى هناك مجتمعات منغلقة، وبؤر متخلفة، وشعوب متطفلة، وثقافات ترفض المشاركة والتفاعل. ثقافات وشعوب ذكرها بالاسم والموقع، ولكنني لضيق المساحة وطمعا في السلامة أترك لك تخمين مواقعها على كوكب الأرض!