قبل فترة كنتُ في نيوزلندا حين تذكرت فجأة أنني أقف (الآن) في أدنى نقطة مسكونة في جنوب كوكب الأرض.. وفي لحظة لم يشاهدني فيها أحد نظرت إلى قَدمي ثم تحسست رأسي بيَدي محاولا التأكد من أنني لا أقف رأسا على عقب.. فطالما اعترفنا بأن الأرض كروية الشكل يفترض أنني أقف (وقتها) بالمقلوب مقارنة بعائلتي في السعودية .. وكافة الناس في شمال الكرة الأرضية.. وهذه المغالطة بالضبط هي ما جعلت البشر يختلفون طوال قرون بخصوص شكل الأرض الخارجي.. فقسم يرى أنها مسطحة كصينية الشاي (بدليل وقوف كافة الشعوب على أقدامها وعدم سقوطهم من جنوبها) وقسم يؤكد أنها كروية (بدليل كروية كافة الأجرام السماوية وتحدب المحيطات وتوالي الليل والنهار ووو...) ! وقبل الدخول في التفاصيل أشير أولا إلى أنني لا أحاول اليوم إثبات كروية الأرض (فهذا أمر أصبح من المسلّمات الجغرافية والفلكية) ولكنني أحاول فقط الإجابة عن ذلك التساؤل الخجول بخصوص عدم سقوطنا أو شعورنا بالانقلاب في جنوبها لو كانت "كروية" فعلا!! ... ولفعل هذا يجب أن أعترف أولا بأن السؤال الذي عنونت به المقال خاطئ منذ البداية كون "السقوط" لا يتم إلا داخليا نحو مركز الارض (حيث اتجاه الجذب) وبالتالي سواء كنا في شمال أو جنوب الأرض سنسقط دائما (أو ننجذب بتعبير أدق) نحو مركزها فقط .. ... أما ثانيا : فهو أن "الأسفل" و "الأعلى" مجرد اتجاه نسبي وإحساس مخادع تصنعه أدمغتنا وحواسنا الخارجية.. فأدمغتنا وحواسنا تعتقد ببساطة أن "الأسفل" هو ماتحت أقدامنا و"الأعلى" هو مافوق رؤوسنا وهذا بالضبط ماتراه أعين النيوزلنديين وتشعر به أدمغة البطاريق في القطب الجنوبي ... أما ثالثا : فهو أن كوكب الأرض ذاته ينطلق في الفضاء الخارجي بسرعة خارقة بحيث تجذبنا قوة القصور الذاتي نحو سطحه بشكل دائم (كما تجذبك قوة انطلاق الطائرة أو السيارة إلى الكرسي الذي تجلس عليه).. ولتقريب الفكرة الأخيرة بشكل أفضل تصوّر معي مجموعة من الناس يتواجدون في مصعد انقطع حبله وأخذ يهوي إلى الأرض بسرعة كبيرة. حينها سيرتفعون عن أرضية المصعد شيئا فشيئا بحيث تختفي الجاذبية ويبدأون بالارتفاع في الهواء (وهذه بالمناسبة طريقة تدريب رواد الفضاء الذين يختبرون السباحة في الفضاء داخل طائرة تهوي الى الأرض).. أما في حال حدث العكس وتصورنا أن ماردا من الجن رفع المصعد وانطلق به نحو الفضاء سيشعر الركاب حينها بقوة جذب تشدهم نحو أرضية المصعد (رغم أنهم وصلوا الى الفضاء الخارجي حيث تنعدم الجاذبية أصلا).. وحتى حين يبدأ المارد بتطويح المصعد وسحبه بشكل دائري مغلق سيشعر الناس بقوة جذب كبيرة تدفعهم لأرضيته بفعل ظاهرة القصور الذاتي.. وكما يشدهم انطلاق المصعد نحو "أرضيته" تشدنا الأرض نحو سطحها بفعل انطلاقها السريع في الفضاء ، سواء كنا في نيوزلندا جنوبا أو السويد شمالا !!! **** *** *** وعلى أي حال : رغم اعترافنا بكروية الأرض يبدو أنها عادت للتسطح هذه الأيام بفعل العولمة والانترنت والاتصالات الفضائية وبراعة الشيخ جوجل.. وهذا بالضبط هو موضوع مقالنا القادم