الفتوى تتبيأ ( أي أنها مخلوقة تستجيب لبيئتها وظروف عصرها) وليست ثابتة مؤزلة , وهو الأمر الذي كان محور الخلاف الفقهي التاريخي بين مدرستي (النقل والعقل) خلال سائر مراحل التاريخ الفقهي, وإن كانت المدرستان قد اتفقتا على النص الشرعي - من الكتاب والسنة والإجماع ، لكنهم اختلفوا بعد ذلك في أدلة ما لا نص فيه مثل : القياس ، ودليل العقل ، والاستحسان ، والاستصحاب ، والمصالح المرسلة. فمدرسة النقل السلفية تجد أن من الأصول هو( التسليم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، فلا يعارض شيء من الكتاب أو السنة الصحيحة بقياس ولا ذوق ولا كشفٍ مزعوم ولا قول شيخ موهوم ولا إمام ولا غير ذلك).. بينما اعتمدت عدد من المدارس الفقهية على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل، وقالوا بأن العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي. وفي وقتنا الحاضر أوضح مواجهة بين هاتين المدرستين تتبدى لنا كل عام من خلال تحديد توقيت الشهر الكريم , والتجاذب بين رأيين: أحدهما يعتمد على الرؤية المجردة للهلال كما يشير ظاهر النص الشرعي , بينما هناك توجه آخر يرى وجوب الاستعانة بالعقل وأدواته في تحديد ظهور الهلال وبداية الشهر . والخلاف بين المدرستين ليس بجديد، بل له جذور تاريخية قديمة بين مذهب أهل السنة والجماعة النصوصي وبين سواهم من الفرق التي كانت تجد في العقل أداة مثلى لمقاربة النص المقدس وتفسيره ضمن متطلبات عصره وبالتالي تحويله إلى ممارسة حياتية يومية تنعكس إيجابيا على عموم المسلمين أو مايسمى بالمصطلح الفقهي ...المصالح المرسلة . وبالتأكيد هذا الخلاف لاينحصر في قضية رؤية الهلال، فقد يتجاوزها إلى الكثير من المناطق المختلفة وتحت مختلف الاجتهادات والتوجهات الفقهية , ولعل أسخنها على الساحة الآن قضية فتوى (إباحة الغناء)، فقد بتنا نلاحظ أن بعض وسائل الإعلام باتت تطلق على الشيخ الكلباني اسم (المقرئ) الكلباني، وحرمته من امتياز لقب الشيخ , وهذا الحرمان يشير إلى أن إمام الحرم السابق قد جرد من رتبته وامتيازاته التي كان يتمتع بها في السابق. لاسيما أن الشيخ الكلباني قد صرح لإحدى وسائل الإعلام عندما أطلق فتواه المتعلقة بإباحة الغناء على الإطلاق (إنني لم يعد لدي ما أخسره) وعندما نقرأ ماوراء هذه الكلمة، نخمن أن هناك بعض الحسابات الخاصة التي تصاحب الجهر بالفتوى أو إخفاءها , ومنها مراعاة لتوازنات معينة والتقية من هيمنة توجه معين وسطوة تيار فقهي على المناخ العام , تلك السطوة التي من الممكن أن تقف وتتصدى لأي اجتهاد أو رأي أو فتوى قد تتقاطع مع منظورها . وكتب التاريخ تخبرنا بأن أصحاب مالك حملوا على الشافعي بعد ان غير ( مالكيته ) و أسس لنفسه مذهبا مستقلا، عندما جاء الى مصر هاربا، بعد أن تخلى عن فتاويه وأقواله السابقة. ووصل الأمر أن أهدروا دمه و شتموه و دعوا عليه , أيضا الحنابلة هاجموا الطبري ( إمام المفسرين ) - بالرغم من هروبهم من مناظرته أمام الحاكم، و طاردوه فلم يدفن دفنة تليق به , بل دفن ليلاً في منزله الخاص . ومن الصعب أن نتتبع قائمة المختلف عليه الطويلة، ويصعب حصرها ولكن على الرغم من تاريخها الدموي , قد ننظر للجانب المضيء منها في قوله عليه السلام (في اختلاف علماء أمتي رحمة )، الاختلاف هو ظاهرة صحية ايجابية وحضارية، طالما بقيت تحت سقف التعايش والتسامح وقبول المختلف واحترام اجتهاده طالما لم يتقاطع مع الثوابت.