عندما انتقل المفكر المغربي محمد عابد الجابري قبل عدة أسابيع شعرت أن التراث العربي أصبح يتيماً فقد كان الجابري نعم "الأب" لهذا التراث فقد أفنى حياته كلها في البحث فيه والعمل من أجل إحداث نقلة تحركه عن السكون الذي كان يعتريه. مشروعه التقدي حول العقل العربي ومشاريعه النقدية الأخرى أحدث "حراكاً" فكرياً غير مسبوق على مستوى التراث منذ منتصف الثمانينيات الميلادية، فأفكار مثل "القراءة التراثية للتراث" و"تجاوز التراث" أصبحت جزءاً من الثقافة اليومية والأهم من هذا أن الجابري فتح بلاد المغرب لنا أبناء المشرق العربي، كما فعل ذلك عقبة بن نافع قبل أربعة عشر قرناً، وقرب تلك الديار العزيزة علينا منا، وجعلنا نتلاقح معهم فكراً ومجتمعاً، وهذا والله لفتح عظيم. لقد جعل الجابري التراث متاحاً للناس وفتح معهم أبواب كثيرة تخوض في تفاصيل الحياة والتأثير المستقبلي للتراث على هذه التفاصيل، فهو لم ينكر قيمة التراث العظيمة لكنه حاول أن يتخلص من النظرة السلفية الجامدة له. لقد ذكرني مؤتمر التراث العمراني الأول في الدول الإسلامية- الذي نظمته هيئة السياحة الأسبوع الفائت- بالجابري، خصوصا وأن كثيراً من الزملاء الذين شاركوا في فعاليات هذا المؤتمر تناولوا الجابري من زوايا متعددة، ليس في أوراق العمل ولكن في الأحاديث الجانبية.. كانت أفكاره خارجة على مبدأ "التوفيقية" الذي تشكل خلال القرن العشرين ليوفق بين السلفيين وبين الحداثيين، لأنه ركز فقط على قراءة التراث العربي/الإسلامي قراءة نقدية عميقة وفاحصة تتجاوز النظرة التراثية الساكنة للتراث. المسألة المهمة في قراءة الجابري هي أنه لم ينظر للتراث على أنه مكون جاهز تشكل في الماضي، بل تعامل معه على أنه مكون يؤثر وسيؤثر في نظرتنا للحياة ويجب على هذا الأساس أن تقوم تلك النظرة وأن يزاح كل الغبار الذي كان يغطي هذا التراث وبأسلوب معرفي عميق يبتعد عن العاطفة لكنه في نفس الوقت يعطي التراث حقه وقيمته. أعزي الفكر العربي في فقد الجابري، فهذا الرجل "القامة" لن يعوّض، لكن عزاءنا أنه ترك لنا "تراثاً" فكرياً ضخماً سنواصل منه طريق اكتشاف التراث دون شك. لقد ذكرني مؤتمر التراث العمراني الأول في الدول الإسلامية -الذي نظمته هيئة السياحة الأسبوع الفائت- بالجابري، خصوصا وأن كثيراً من الزملاء الذين شاركوا في فعاليات هذا المؤتمر تناولوا الجابري من زوايا متعددة ليس في أوراق العمل ولكن في الأحاديث الجانبية، فهذا المفكر، حتى وإن لم يتطرق للعمارة والعمران بشكل مباشر، لكنه كان قارئا متمعناً لابن خلدون ومتفحصاً لرؤيته العمرانية كما أنه أتاح لنقاد العمارة أدوات معرفية/ نقدية لم تكن متاحة في السابق على مستوى التحليل المنهجي للظاهرة العمرانية بعيداً عن التشنج والعاطفة والنظرة القروسطية الساكنة المرتبطة بالتعالي الثقافي. يمكن أن نلاحظ هذا التأثير في التحولات الكبيرة التي يعيشها الفكر العمراني في المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين (مع تصاعد تأثير مشروع الجابري في نقد العقل العربي)، فقد جعلنا نتجاوز "الشكلانية" التي كانت طاغية في نظرتنا للتراث العمراني إلى البحث في "سببية" التراث ومكونه المعرفي، وهو الأمر الذي أحدث نقلة حقيقية في النقد التاريخي المعاصر للعمارة في الحضارة العربية/الإسلامية. ما أثاره مؤتمر التراث هو محاولة لتجاوز القراءة التراثية للتراث العمراني، كما أنه محاولة تطوير رؤية عملية للتعامل مع التراث وجعله جزءاً من العمل الاقتصادي/التنموي العام. على أن المثير حقا في هذا المؤتمر الفكر الجديد في تنظيم المؤتمرات، إذ لم يتركز المؤتمر في مدينة الرياض فقط، وإن كانت هي قلب الحدث، بل انتقل المحاضرون وبعض الوفود إلى مناطق ومحافظات المملكة وقدموا محاضرات وشاركوا في فعاليات التراث العمراني هناك. ربما يبشر هذا الأسلوب في إدارة المؤتمرات بتحول كبير في إشاعة المعرفة على المستوى المجتمعي ففي المملكة تعقد عشرات المؤتمرات سنويا لا تستفيد منها إلا المدن الكبيرة بينما تظل الأطراف البعيدة التي تستحق منا اهتماماً أكبر خصوصا إذا ما كنا نبحث عن تنمية متوازنة. فكرة "اللامركزية" في إدارة مؤتمر التراث العمراني، ربما تجعلنا نفكر أكثر في معنى "التراث والناس"، فإذا ما أردنا أن نحقق اختراقاً ثقافياً على المستوى المجتمعي، كما يسعى له سمو الرئيس العام لهيئة السياحة، فإنه من المنطقي أن نبدأ بالأطراف التي تضم هذا التراث وتحتويه ويفترض بمن يسكن هناك أن يحافظ عليه ويستثمره. فكرة إدارة المؤتمر تستحق التقدير وتستحق أن تكون مثالاً للمؤتمرات القادمة التي ستعقد في الرياض والمدن السعودية الكبيرة، هذا إذا ما أردنا أن نصنع ثقافة مجتمعية واعية تشارك في التنمية وفي جميع مناطق المملكة. في اعتقادي أن تصاعد الوعي المجتمعي نحو التراث، سيكون سبباً مهماً في دمج التراث في حياتنا المعاصرة وبنظرة تتخلص من الرؤية الساكنة المتجمدة للتراث، خصوصا في مجال العمارة، إذ إن درجة الوعي بالتراث العمراني في الأساس ضعيفة ولا ترقى أبداً إلى ما يثار حول التراث الديني واللغوي والأدبي في الثقافة العربية. وهذا المؤتمر، ربما يكون بداية لتركيز الاهتمام على هذا التراث الذي يؤثر مباشرة في عملية التنمية والاقتصاد، فالفرق هنا بين الخوض في التراث الغير مادي وبين التراث العمراني المادي شاسع، لأن التراث المادي بشكل عام لم يخدم على المستوى الفكري كما أنه تراث عملي مرتبط بحياة الناس المادية، وله أبعاده الحياتية/الاقتصادية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار. المشكلة الحقيقية هي أن أغلب الدراسات حول هذا التراث هي مجرد محاولات فردية متناثرة على مستوى العالم الإسلامي لا ترقى أبداً كي تشكل فكراً له مدارسه وأصوله وأدواته المعرفية والمنهجية. هذا المؤتمر فرصة حقيقية لإعادة الاعتبار "الغير مادي" للتراث المادي، وأقصد هنا على المستوى الفكري لأن مساهمة دارسي العمارة في هذا المجال ضعيفة ومستعجلة ولم تصل إلى مرحلة العمق التي طرحها الجابري -رحمه الله- في دراساته الغير مادية للتراث. يجب أن نغتنم هذه المناسبات للتذكير بما يجب أن نقوم به من عمل ومن بحوث ودراسات، ولا أريد هنا أن أذكر برداءة المؤسسات التعليمية العربية، فهذا الأمر تعبنا منه ولا نعتقد أنه مفيد، لكن المشاريع التي ترتبط بمؤسسات ناهضة ومفكرة (مثل هيئة السياحة) يمكن أن تصنع التغيير طالما أن المؤسسات التي كان يفترض بها أن تصنع هذا الوعي التغييري على مستوى التراث العمراني لم تقم بدورها أبداً، وأنا هنا أذكر أن سمو رئيس السياحة قدم مشروعاً لتأصيل التراث العمراني في تعليم العمارة ومنذ فترة تقترب الآن إلى الربع قرن، ولم تتحرك المؤسسات التعليمية إلا مؤخراً، وأنا أقول أن نصل متأخرين أفضل من أن لا نصل أبداً، فتلك الحركة المتأخرة ستكون مباركة بإذن الله، وتكرار مثل هذا المؤتمر والتفاعل معه سيكون مؤثراً دون شك.