"كيف نستعيد مجدنا..؟ كيف نحيي تراثنا..؟". "كيف نعيش عصرنا؟، كيف نتعامل مع تراثنا؟". كيف نحقق ثورتنا؟.. كيف نعيد بناء تراثنا؟" هذه هي الأسئلة التي يطرحها الفكر العربي كاملاً منذ فترة طويلة ، كما يراها المفكر الراحل محمد عابد الجابري في أول كتاب ظهر له قبل أكثر من ثلاثين عاماً:" نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي". ومنذ ذلك الوقت والجابري يعود إلى التراث ليُعيد من خلال منظوره الخاص ترتيب الرؤى الفكرية والفلسفية التراثية مُنطلقاً من أرضية معرفية تأصيلية.كان هذا التراث ، في رأي الجابري ، القنطرة التي تقودنا إلى المستقبل فيما لو حاولنا عقْلنة هذا التراث ومساءلته مساءلة منطقية. يحاول الجابري في كل مشروعه الفكري أن يقف على أرضيته الخاصة ، وهي الأرضية التي ترتكز في المسافة الفاصلة بين الفكر السلفي والفكر الليبرالي والفكر اليساري في العالم العربي في رؤيتهم الفكرية للتراث والمعاصرة . ثم ينطلق الجابري في كتبه التالية ، وبنفسه الهادئ وجهده العلمي الكبير، في نقد الفكر العربي ونقد الخطابات العربية كاملة بلا استثناء ، ماضيها وحاضرها . وهنا تكمن فرادة الجابري في كل ما طرحه ، حتى وإن كان يُوصف بأنه أصبح سلفي الهوى في أواخر حياته الفكرية. الغريب أن الفكر السلفي كان ومازال يرفض الجابري وفكر الجابري إلى درجة أنه في إحدى المجموعات البريدية رفض أحدهم الترحّم على الجابري بعد وفاته قبل أيام. لقد رحل المفكر المغربي الأشهر والأكثر تأثيراً وجدلية: محمد عابد الجابري عن دنيانا، الاثنين الفائت، مُخلفاً أكثر من ثلاثين مؤلفاً فكرياً وفلسفياً من الوزن الثقيل، ليعطي صورة مجملة عن سياقات الفكر العربي منذ بداياته وحتى وقتنا الحاضر، منطلقا من كتابه المذكور آنفاً: "نحن والتراث"، ومُختتما مسيرته الفكرية في مؤلف من ثلاثة أجزاء حول القرآن الكريم وتفسيره ، وهو المشروع الذي كان حسب قوله حلم العمر. وهو الكتاب الذي صدر بسببه فتوى تكفيرية تجاه الجابري ، في الوقت الذي كان يستند الجابري في هذا الكتاب إلى ما يُعرف قديماً بعلوم القرآن ، ولم يخرج كثيرا عن ذلك المنهج مروراً بمشروعه الأشهر نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة : "تكوين العقل العربي"، و" بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي". وهذه الكتب الأربعة الأخيرة تكاد تكون هي الأكثر تأثيرا على الفكر العربي المعاصر، حتى إن المفكر جورج طرابيشي كتب عدة كتب في نقده للجابري مستنداً على كتبه هذه. على المستوى السعودي فإن تأثير الجابري في كتبه الأربعة هذه كان طاغياً على مجموعة الشباب الذي يهتمون بطرح القضايا الفكرية والفلسفية في المشهد السعودي، إلى درجة أن بعض الذين تحوّلوا من الخطاب التقليدي المتشدد إلى الخطاب الليبرالي ، فإن الجابري كان أحد من قدحوا شرارة الفكر في ذواتهم من خلال كتبه هذه. يحكي لي الأستاذ منصور النقيدان ، وهو من أشهر المتحولين من الخطاب الديني إلى الخطاب الليبرالي ، أن كتب الجابري كانت أحد أهم الأمور التي استطاعت تنظيم فكره وجعلته يتحول من خطاب إلى خطاب نقيض. أيضا هذا التأثير نجده عند البقية من هؤلاء الشباب، ويستند الأستاذ يوسف أبا الخيل في بعض أطروحاته الفكرية على الجابري في نقده للتراث. شخصياً تعرفتُ على كتب الجابري قبل فترة ليست بالطويلة ، فكان مشروعه نقد العقل العربي بأجزائه الأربعة التي ذكرناها أهم الكتب التي أعطتني صورة بانورامية معرفية حول فكرنا العربي الماضي. ولقد كانت المنظومة الفكرية التي اعتمد عليها الجابري تحاول أن تختزل الفكر العربي بمذاهبه وتياراته الماضية بثلاثة نظم معرفية : "البيان والعرفان والبرهان" على التداخل الكبير فيما بينها. وسواء اختلفتَ أو اتفقتَ معه في تقسيماته تلك إلا أنكَ لا تستطيع إلا أن تحترم ذلك العقل الكبير والجهد البحثي الذي يستند عليه الجابري في مشاريعه كلها. لقد كان الحفر المعرفي الذي مارسه الجابري على مجمل الفكر العربي التراثي ، استثنائياً ، والأكثر استثنائية أن الجابري لم يقف موقفا أيديولوجياً من أي خطاب أو فكر أو مذهب حتى لتظنَّ في لحظة من اللحظات أنه يتبنى ذات الخطاب الذي ينتقده. في الفترة الأخيرة وُصف الجابري من قبل مفكري اليسار أنه تحول إلى السلفية ، في حين يرفض السلفيون ذلك ويعتبرونه ضالاً مضلاً، وحينما كان ضيفاً على الجنادرية العام الماضي احتشد الكثير من الشباب المُحتسب ليبحثوا في محاضرته عن زلاّت فكرية يدينونه بها ، لكن الجابري بنفسه الهادئ والعلمي كان أكبر من هؤلاء جميعاً. فالقضية لدى الجابري معرفية ، في حين كانت القضية لدى غيره أيديولوجية تأخذ الأمور بطريقة "الأبيض والأسود" أو ال"مع" وال"ضد" . ومن يقرأ الجابري جيداً فإنه سوف يعلم تمام العلم أن الجابري يرفض مثل هذه الحدّية الفكرية أو الأيديولوجية بل عن مشروع الجابري من التراث هو مشروع حفري تاريخي تحليلي مُتعقْلن لا يدور في خانة الرفض ولا في خانة القبول ، بل في خانة القراءة الإبيستيميولوجية (نظرية المعرفة)، أو طريقة التفكير والنظام المعرفي الذي يحكم سياقا تاريخيا معيناً ، سواء كان ماضياً أو معاصراً . ولذلك نجده يُمارس نقده للخطابات المعاصرة في بعض كتبه مثل: "نقد الحاجة إلى الإصلاح" أو غيره. نحن أمام التراث ، في رأي الجابري ، كنا نقف الموقف المُتماهي مع التراث حدّ السلطة المطلقة على حاضرنا والذي يمكن أن يؤثر على مستقبلنا . وهذا بالطبع ما يرفضه الجابري رفضا قاطعاً . وهو في المقابل يرفض الأطروحات الفاسدة على حد تعبيره والتي تدعو إلى القطيعة التامة مع التراث ووضعه في ركن من أركان المتاحف التراثية. والمسألة في رأيه هنا أننا كفكر عربي معاصر نفتقد إلى الدراسة التاريخية. يقول في كتابه" نحن والتراث " ص 21: " اندماج الذات في التراث شيء، واندماج التراث في الذات شيء آخر. أن يحتوينا التراث شيء وأن نحتوي التراث شيء آخر.. إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من "كائنات تراثية" إلى كائنات لها تراث. أي إلى شخصيات يشكل التراث أحد مقوماتها، المقوم الجامع بينها في شخصية أعم هي شخصية الأمة صاحبة التراث.