ماذا قدم المفكرون العرب لتحقيق النهضة العربية والإسلامية خلال الفترة الماضية؟ سؤال مطروح على الساحة اليوم بعد رحيل المفكر المغربي عابد الجابري والجزائري محمد أركون، وقد تباينت آراء المفكرين حول هذه القضية وإن كان هناك ما يشبه على الإجماع على أن المفكرين العرب عجزوا عن القيام بدورهم في العالم العربي، وذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها محاولات الكثيرين من المفكرين العرب “عقلنة الدين” والتوشح بوشاح المدنية الغربية الخالصة بغض النظر عن تناسقها مع الموروث الثقافي العربي والإسلامي، وأرجع البعض هذا العجز لعدم قدرة العقل العربي عن إنتاج نظرية معرفية في كل مجالات الحياة. في هذه الحلقة نتناول آراء ثلة من المفكرين العرب: ماذا قدم المفكرون العرب للإجابة على سؤال النهضة؟ ******************** الإشكالية في الذين أهملوا التجديد ورفضوا النقد وارتضوا الاتباع دون الابتداع د. أميرة كشغري قبل الدخول في الإجابة على هذا السؤال علينا تحديد مفهوم "النهضة" الذي نقصده عند الحديث عن النهضة العربية أو عصر النهضة العربي. النهضة في تصوري وكما يتضح من طروحات المفكرين العرب تعني النهوض الحضاري بشكله الشامل، والقدرة على الدخول في دائرة المنافسة العالمية بمختلف مجالاتها الفكرية والعلمية والثقافية والاقتصادية، والخروج من حالة الركود الفكري المتمثل في انعدام النتاج الفكري المعرفي. هناك ثلاث مراحل كبرى تؤرخ للفكر العربي النهضوي. أول هذه المراحل هو العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في القرن التاسع الميلادي (نهاية العصر العباسي الأول) وهو عصر هارون الرشيد والأمين والمأمون، حيث انتعشت الحركة العلمية في التأليف والترجمة والفكر والفلسفة. وبعدها دخل العالم العربي الإسلامي في مرحلة أفول مستمر حتى عهد النهضة العربية الثانية في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر حيث تصدى رواد الفكر العربي الحديث مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني لمشروع التحديث في الفكر العربي. ثم تلتها المرحلة الثالثة في النصف الثاني من القرن العشرين حتى يومنا الحاضر حيث بدأت إرهاصات مرحلة جديدة في مسيرة النهضة الفكرية العربية الحديثة. وقد طرح المفكرون العرب عديدًا من الأسئلة حاولوا -كل بحسب ميوله الإيديولوجية وتصوراته الفكرية وانتماءاته الطبقية والسياسية- أن يجيبوا عليها. وقد تركزت هذه الأسئلة في أربع مشكلات رئيسية كما يرى المفكر المغربي عبدالله العروي: •مشكلة الأصالة وتعني تحديد الهوية وتعريف الذات وعلاقتها بالآخر. •مشكلة الاستمرار وتعني الموقف من التراث وعلاقة العرب بماضيهم. •مشكلة المنهج الفكري العام وتعني الوسائل التي سيتبعها العرب لكي يكتسبوا المعرفة، ولكي يمارسوا الفعل. هل للعرب مناهج فكرية خاصة أم أن بإمكانهم الاستفادة من المناهج الفكرية العالمية من أجل البحث والإنتاج المعرفي؟ •مشكلة أدوات التعبير التي تتيح للعرب أن يعبروا بواسطتها عن مرحلة تطورهم الراهنة. وبالرغم من تعدد الأسئلة وتنوع الإشكاليات المطروحة إلا أنه بالإمكان القول إن إشكالية المنهج الفكري العام كانت هي الأبرز. فالمنهج الفكري الذي وقع في فكه العالم العربي كان منهجًا مغلقًا أقفل باب التجديد وأعلن رفضه للنقد والتحليل وارتضى الإتباع دون الابتداع، كما سلك درب العرفان دون البرهان مما أدى إلى تعطيل البناء النقدي وتكفير كل من جاء بأدوات معرفية جديدة لقراءة التاريخ وفهم دروسه. فكان أن طغت البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية المنغلقة على ذاتها والتي رأت في العودة إلى الماضي سبيلًا للنهوض. من هنا يتضح أن أسباب فشل مشروع النهضة العربية هو عدم القدرة على تغيير البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي صبغت الذهنية الفردية والمجتمعية. وقد أفرزت هذه الذهنية أنظمة جامدة عصية على التغيير مثل النظام الأبوي والنزعة الاستبدادية المنبثقة عنه، ومسألة التوفيق بين التحديث والحداثة. من الملاحظ أيضًا أن المفكرين العرب لم يتمكنوا، على كثرتهم وتنوع اتجاهاتهم ومناهجهم وما لهم من إسهامات فكرية، من ترك أثر على مجتمعاتهم بشكل فاعل يغير من الواقع الذي يعيشونه ويغير من الممارسات على أرض الواقع. لقد كانت نقاشات المفكرين العرب حول ماهية النهضة والأسلوب الأمثل للخروج من دائرة التخلف الحضاري الذي تعيشه الأمة العربية أكبر حجمًا من إسهاماتهم الجدية في تحقيق أوجه النهضة. فقد انشغل المفكرون العرب في طرح سؤال النهضة وأسباب التخلف وطرق الخروج منه أكثر من انشغالهم بمعالجة القضايا الأساسية المؤسسة للنهضة بحد ذاتها. أعتقد أن المفكرين العرب حاولوا تشخيص الأسباب التي أدت إلى أزمة التخلف في العالم العربي وهي أسباب كثيرة منها السياسي، الفكري، الثقافي، التاريخي والتعليمي. غير أن الواقع يبرهن أن أهم الأسباب هي الأسباب الثقافية-السياسية التي شخصها الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد". ويتفرع عنها الأسباب الفكرية وهي منظومة العقل العربي والذهنية التي تدار بها المؤسسات ويتأثر بها الأفراد. من الواضح إذن أننا إذا لم نستطع تغيير المنظومة الفكرية الثقافية للعالم العربي (السياسة، الاقتصاد، التعليم) فلن تجدي كل الاسهامات التي يطرحها المفكرون لأنها تظل خارج إطار التأثير والتفاعل المؤدي إلى التغيير. ********************** المفكرون وسؤال النهضة د. محمد بن مريسي الحارثي قامت النهضة الرؤيوية على رسم خريطة إنقاذ ذات ثلاث شعب: الأولى الاتجاه إلى التراث؛ لاستنهاض متطلبات الحياة المعاصرة، وأن المكوّن التراثي يصلح لإقامة المشروع النهضوي العربي والتوجس من أي طارئ من خارج الذات، وضعف الثقة في قدرته على إحداث التغيير المنسجم مع عوربة العادة، والعبادة. هذا عند الغالبية من المتعاطفين مع القول بأن ما يصلح المتأخر إلا ما صلح به المتقدم، دون إعطاء أهمية التجديد من مكوّنات التراث كبير اهتمام وفق الحاجات الحضارية الجديدة. مع الأخذ في الحسبان أن أصحاب هذا الاتجاه إلى استنهاض التراث في صناعة الحاضر لم يغب عنهم مستجدات العصر الحديثة لكنهم كانوا يترددون في إقامة العلاقات التي تطبع المستحدث الغيري بطابع الذات، مع قيام الحاجة إلى الآخر في توسيع النظرة العربية، والتفاعل مع تحولات النهضة السريعة، والواسعة. ولعل آلات تطويع الجديد للقديم لم تكن مؤهلة لإحداث شيء من التناسب بينهما، وخلق البيئة الجديدة التي تتعدد فيها مسالك القيم تنوعًا، وتتحد في الغايات الكبرى التي ترغب الحضارة في الوصول إليها لإقامة متطلبات النهضة على أسس عربية في أصولها وفروعها الجديدة دون تغريب للوجه العربي أو مصادرة لمستجداته. وقد حاولت الشعبة الثانية من شعب طرائق النهضة أن تحدث انسجامًا وتآخيًا بين متطلبات النهضة الذاتية التراثية والجديدة، ورأت أن هذا المسلك النهضوي قادر على صناعة النهضة الحديثة دون التدقيق في تحديد صور النهضة مستوىً ونوعًا، وأن مشتركات الحضارات تعدّ فرصة لتشكيل الحضارة الجديدة عند أية أمة أو شعب يبحث في تطوير صور حياته، وأن عملية التأثر والتأثير أمر مسلّم به في أي مستوى من مستويات التأثر والتأثير التي تتم عادة وفق خطوات محسوبة على حدٍّ ما. من ذلك قيام الحاجة إلى الأخذ من خارج الذات، وطبع المأخوذ بطابع الحضارة المتأثرة حتى يصبح ذلك المأخوذ بنية أساسًا من بنيات الجهة المتأثرة. ويبدو أن هذه الشعبة التوفيقية كانت أكثر الشعب الثلاث في البحث عن بؤر التوفيق بين القيم المتقاربة بما لا يجور التوفيق على أصول الحضارة العربية. أما الشعبة الثالثة فقد جاءت في مقابل الشعبة التراثية إذ وجهت اهتمامها إلى خارج الذات في الأغلب الأعم من مناشطها النهضوية. وأن البدء من حيث انتهى الغرب المتقدم حضاريًا يعجّل الوصول إلى إعطاء النهضة حقها من العناية والاهتمام وتحقيق المكاسب المنتظرة. وهي مكاسب تأرجحت بين الواقعي، والمتصور، والمغامرة، والاندفاع، والآلة في ذلك الاعتماد على العقل الصانع، أكثر من الاعتماد على العقل الاستدلالي. ولما كان العقل العربي عقلًا نظريًا وليس عقلًا تكنولوجيًا فإن البحث في شعب النهضة العربية الحديثة الثلاث لم يصنع عقلًا علميًا تجريبيًا؛ إذ ما زال العقل العربي التكنولوجي عقلًا تجميعيًا يجمع نتائج عقول الآخر العلمية لتقيم عليها صناعات أولية استهلاكية لا تكفي حاجات الداخل. لذلك اتجه الفكر العربي النظري الحديث إلى البحث في أصول المعرفة العربية النظرية ومستجداتها. فقد قرأ زكي نجيب محمود المعرفة العربية في بدايات تأليفه من خارج تلك الأصول حتى إذا لم يصل إلى نتائج علمية يركن إلى سلامتها -عندما لم تسعفه طريقة القراءة من الخارج على كشف عن نتائج وفق منهج البحث- عاد إلى قراءة المعرفة العربية التراثية من داخلها فلمس الكثير من النتائج ذات العلاقات البينة بين التراث والمستجدات. وقد ذهب غير واحد مذهب زكي نجيب محمود أمثال محمد أركون على سبيل المثال. وقرأ حسن حنفي ومحمد عابد الجابري أصول المعرفة العربية؛ لاستنبات نهضة حديثة من داخل المعرفة ولكن بعيون متفائلة كثيرًا في عكس الظاهر بمعنى تطويع التراث للمستجدات وليس العكس. وعلى عكس هذا الاتجاه قراءات محمد عمارة، ومحمد سليم العوا، ويوسف القرضاوي، ورضوان السيّد...وغيرهم من المفكرين الذين نهجوا نهج الاعتدال في إقامة العلاقات النصية والعقلانية بين الأشياء في إنزال النصوص على الوقائع، وإقامة مشروع النهضة النظرية العربية على الحقائق المنظورة المتوقعة. ولم تكن صور الحضارات المعاصرة بعيدة عن تناولهم بالعقل الاستدلالي وليس بالعقل الصانع المنبت عن الاستدلال. ******************** ماذا قدم المفكرون العرب لسؤال النهضة؟ د. حسن الهويمل كان يجب أن نسأل: ما شروط النهضة؟ وحين تتفق وجهات النظر حول الشروط أو تقترب، أو يكون اختلافها اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، يكون التفاؤل عما قدمه المفكرون لسؤال النهضة. وعلى ضوء هذا الاختلاف المستحرّ قد يكون ما قدم تعويقًا للنهضة، المفكرون يحلو لهم أن يغردوا خارج السرب، وكل مفكر يستبد في صناعة مشروعه دون أن ينظر إلى مشروعات لداته ومجايليه، النهضة في ضوء الاختلاف تشكل عائقًا لمسير الأمة وما أحوجنا إلى مؤسسات فكرية تصنع الخطاب وتقرب بين وجهات النظر، لعلنا في هذا الصدد نستحضر رؤيتين متناقضتين لمفكرين كان لهما أثرهما المتميز في المشهد الحضاري: المفكر الجزائري: مالك بن نبي، والمفكر المصري: سيد قطب؛ لقد كانت رؤية سيد محتدمة وحدية، نافية للمدنية، ملحة على الأسلمة، فيما يذهب مالك بن نبي إلى إنسانية الحضارة مع الاحتفاظ بقدر كاف من الأسلمة، وفي ظل هذا الصراع المرير كتب مالك بن نبي: شروط النهضة وحاول استقبال المنجز الإنساني في بعده المدني، وقدم مشروعه العربي الإسلامي متصالحًا مع المنجز الإنساني، وإذا كانت منطلقات المفكرين الأوائل تساؤلية تصالحية فإن المعاصرين أوغلوا في الصدامية والنفي والارتياب والإقصاء، وهذه ردة فعل لطائفة من المفكرين شايعوا الاستعمار والمستشرقين على تغريب الفكر الإسلامي، ويقيني أن إفرازات المرحلة تشكل عائقًا أمام القدرة على استيعاب الخطابات المتعددة والتي يمكن أن تحاور وأن تصالح؛ إذ نحن بأمس الحاجة إلى تجهيز خطاب يجنح إلى الحوار والمصالحة، ويدفع بالتي هي أحسن. لقد استطاعت الفترات الذهبية للحضارة الإسلامية استيعاب كل الحضارات والتفاعل مع كل الخطابات، ويبدو لي أن عامل الضعف وانكشاف اللعب السياسية أدى إلى مزيد من الشك والارتياب وأخذ الحذر وأيًا ما كانت الأوضاع فإن واجب قادة الفكر وزعماء الإصلاح من علماء ومفكرين وقادة سياسيين أن يعيدوا النظر في مشروعاتهم الفكرية، وأن يلموا بخطاب الآخر قبل الحكم عليه والموقف منه، ولن يستطيعوا ذلك ما لم ينطلق خطابهم من مؤسسة تصهر الرؤى والتصورات والمواقف، وتقارب بين وجهات النظر، ثم ينطلق خطابها ليكون ندًا قويًا إلى جانب الخطابات الأخرى. ولأن النهضة مجموعة قيم معنوية وحسية فإن تشكيل الخطاب يجب أن تتولاه مجموعة من التخصصات تأتي المؤسسة الدينية في المقدمة لأن الأمة عربية إسلامية، ولا يمكن أن تتخلى عن عروبتها ولا عن إسلاميتها. سؤال النهضة سيظل عائمًا ما لم يستوعبه المشرعون والمنفذون، وما لم يكن الخطاب قويًا بتماسك أطياف الفكر المعاصر. لقد اجتاحت مشاهد الفكر خطابات سلفية و(ليبرالية) وعلمانية، ولكل طائفة رؤيتها المناقضة للأخرى، وما لم تتقارب وجهات النظر فإن الأمة ستعيش حالة من التيه والاضطراب. ************************ المفكرون العرب والنهضة يمكن مراجعة ما قدمه المفكرون العرب من خلال عدة أسئلة: هل يتأثر الجمهور العربي بمفكريه؟ يرى كثير من الناس أن المفكرين العرب عاجزون عن التأثير، وتشيع في الأوساط كلمات تندد بالتنظير وتدعو إلى تطبيق النظريات، أو تتهم المفكرين بأنهم يعيشون في أبراج عاجية ...الخ. وأظن أن مبعث هذه الأقوال هو الإحباط الناتج عن بطء التغيير والتقدم في العالم العربي. لا يختلف اثنان على أن البطء أو حتى الجمود هو السمة العامة للمجتمعات العربية. وهذه علة يتحمل مسؤوليتها جميع الناس؛ العامة والنخبة والحكومات. لكن دعنا نعرض السؤال بشكل عكسي: هل ساهم المفكرون في تأخير المجتمع العربي أو إبطاء حركته؟ لو لم يكن لدينا مفكرون .. هل كنا سنقلع من مستنقع التخلف بشكل أسرع؟ اعتقد أن تأثير المفكرين كان على الدوام إيجابيًا، لكنه لم يكتمل ولم يصل إلى غاياته بعد. نطلق صفة المفكر على كل ناقد جاد للثقافة السائدة، وعلى كل منتج للأفكار الجديدة، سواء في مجال الفلسفة أو الاجتماعيات أو العلوم أو الاقتصاد. وليس من شك أن المجتمع العربي قد تطور في بعض هذه المجالات، وما كان هذا التطور سيحصل لولا جهود المفكرين. هل عجز المفكرون العرب عن تحقيق تراكم معرفي فعال ومنتج؟ اعتقد أن الأمر صحيح؛ تراكم المعرفة ضئيل في مجتمعاتنا. وأظن أن السبب يرجع إلى عدم الاستقرار الذي أصبح سمة عامة في العالم العربي. المجتمعات العربية تمر جميعًا بظرف انتقالي، سببه تسارع وتيرة التحديث في السنوات الأخيرة. وتتسم ظروف التحول الاجتماعي بانعدام اليقين والتغير الدائم في منظومات القيم وبنى العلاقات الاجتماعية، وفي ذهنية الأفراد. وأنت تجد انعكاسات هذا التغير في الاقتصاد وفي مواقع الناس وأدوارهم ضمن النظام الاجتماعي. من هنا فأنت تجد اهتمامًا بالأعمال الفكرية التي تركز على نقد الواقع السائد، لكن لا تجد اهتمامًا مماثلًا بتلك الأعمال التي تطرح بدائل أو مشروعات. الاهتمام بنقد السائد هو سمة من سمات المراحل الانتقالية، وهو يخدمها بالتأكيد لكننا نحتاج على أي حال إلى عرض بدائل، وعدم الاكتفاء بنقد الواقع. البدائل والمشروعات هي التي تصنع تراكمًا معرفيًا، أما النقد فهو – في المحصلة – تفصيح لإرادة التغيير وهو بالضرورة مؤقت وقصير الأمد. هل نستخدم أدوات ومناهج غربية في تحليل واقعنا الخاص؟ إذا كنا نستعمل تلك المناهج للمرة الأولى فقد نخشى من التصور التخيلي للمشكلات، أو افتراض مشكلات غير موجودة بالفعل. لكننا الآن لسنا في البداية. اكتشف المفكرون العرب معايير النقد والمقارنة الغربية منذ زمن طويل ونجحوا في تبيئة العديد منها، أو على الأقل تحديد الخط الفاصل بين ما ينطبق وما لا ينطبق على واقعنا الخاص. وعلى أي حال فإن التواصل مع الآخرين لا بد أن يؤدي إلى تأثير من نوع ما، لكن الممارسة المستمرة، والقراءة النقدية المنصفة سوف تسمح بفرز الواقعي عن المتخيل. لا يعيبنا أبدًا معرفة ما يفكر فيه العالم، ولا يعيبنا إطلاقًا الاستفادة مما طوره البشر خارج إطارنا المعرفي. واعتقد أن استخدام السيارة المنتجة في أمريكا لا يختلف عن استخدام النظرية التي بنيت السيارة على ضوئها، ولا يختلف استخدام النظرية عن استخدام الأرضية الفلسفية والمنطقية التي بنيت عليها تلك النظرية. المثقفون التقليديون ينظرون إلى الفكر الأجنبي كما لو كان بعبعًا يوشك أن يلتهم من يقاربه. وهذا ناتج في اعتقادي عن تصور ايديولوجي للعلاقة بيننا وبين العالم، ينطلق من ارتياب في كفاءة الإنسان، وقدرته على صناعة قدره. أعتقد أن هذا الارتياب هو واحد من أسباب انفعالنا بالماضي، بل وانحباس عقولنا بين أوراقه وشخوصه، بينما تحتاج النهضة إلى أناس قادرين على تجاوز الماضي، منفتحين على واقعهم، واثقين في البشر الذين يشكلون هذا الواقع، ومؤمنين بقدرة هؤلاء على شق حجاب الغيب الذي يخفي صورة المستقبل المنشود. د. توفيق السيف