سادت موجة من الحزن على الساحة العربية الفكرية والثقافية منذ يوم الاثنين الماضي عندما نقل الناعي نبأ رحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري عن سن ناهز 75 عامًا في الدارالبيضاء بعد مسيرة حافلة بالعطاء لخصها الجابري في مؤلفات عديدة تناول فيها نقد العقل العربي وقضايا التراث والديمقراطية والدولة الوطنية والهوية. ومن بينها“قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي” و“العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي” و“مدخل إلى فلسفة العلوم” و“معرفة القرآن الكريم أو التفسير الواضح لأسباب النزول” و“إشكاليات الفكر العربي المعاصر” و“الديمقراطية وحقوق الانسان” و“مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب” و“المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد” وغيرها. لكن يبقى أشهر مؤلفاته ماثلاً في كتابه “نقد العقل العربي” الصادر في ثلاثة أجزاء هي: “تكوين العقل العربي” و”بنية العقل العربي” و“العقل السياسي العربي”. وقد عبّر عدد من الأدباء والمثقفين العرب عن حزنهم لهذا الفقد الكبير، مشيرين إلى أن رحيل المفكر محمد عابد الجابري بلا شك يسبب فجوة كبيرة في مسيرة الثقافة العربية الحديثة، والفكر العربي الحديث، فبرحيله فقدنا واحدًا من أهم المشتغلين بقضايا العقل ونقد العقل، والاهتمام بالتراث ومباحثته ونقاشه، وبرحيله يخفت صوت من المنادين والمهتمين بالنهضة العربية. فالجابري واحد من المفكرين القلائل الذين اتفق معه أناس واختلف معه آخرون، وتوسط فيه ثالث القوم، حيث استطاع بكل ما كتبه وألفه وقاله أن يجعل الناس في ركبه بغض النظر عمن خالف أو وافق. حيث عمد الجابري طوال حياته إلى الابتعاد عن الأيديولوجية فهو المفكر الأبستيمولوجي بامتياز من خلال ما طرح من قضايا، واهتم به من إصلاحات على المستوى الفردي والجماعي في مسيرة الحياة العربية. نبذه ثقافة الأراجوزات حيث يقول الدكتور صالح الزهراني: “إن محمد عابد الجابري مفكر حر، سيمرّ زمن ليس بالقصير حتى يأتي من يسد مسده في الفكر العربي المعاصر، وقيمة الجابري تكمن في دأبه العلمي، واستغراقه في المعرفة، ونبذه لثقافة الأراجوزات، والحواة. لقد دشّن الجابري مشروعه الضخم في تفكيك العقل العربي وإعادة بنائه، وهو أمر يحمد له، بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذا المشروع، المهم أنه مفكر متميز بكل معنى الكلمة، شكل حضورًا قويًا، وتأثيرًا كبيرًا في جيل الشباب من المحيط إلى الخليج، ولا أعتقد أن هناك مفكرًا نال من الحضور ما ناله الجابري؛ لقدرته على التواصل مع قرائه، وامتلاكه تداوليّة مثيرة للإعجاب اقتحم بها أسوار مشرق الوطن العربي ومغربه. ويضيف الزهراني: “وقيمة الجابري لا تكمن في مشروعه الفكري، وصناعته لعقول تلاميذ كثر في عدد من جامعات العالم العربي فحسب، ولكنها تكمن في ارتباط المعرفة لديه بالسلوك، فلم يكن من المثقفين أصحاب الوجوه الملساء، الذين يفطرون مع علي ويتعشون مع معاوية. لقد عكف على المعرفة، وأكرم نفسه، وصنع للفكر دولة، وللمفكر موقفًا، فعزف عن ثقافة النفاق، وشطب من ذاكرته الجوائز، وارتضى أن يأخذ جائزته من الشعب العربي الذي نافح عن حريته، وكان الجابري رمزًا من رموزها”. ويختم الزهراني قائلاً: “الجابري بشر له خطؤه وصوابه، ومن كان منا بلا خطيئة فليرجمه بالحجارة”. تلويحة كلام وعلق الشاعر عبدالرحمن الموكلي على رحيل الجابري بقوله: “إن الجابري سيبقى مفكرًا متفردًا من حيث إلمامه بالتراث العربي وقراءته ونقده، وأسلوبه البسيط الذي يعد سمة من سمات الجابري الكتابية، محبوه يقدرون له عدم انشغاله بالأيديولوجيا بقدر انشغاله بالنص، ونقاده يأخذون عليه عدم الوعي بالتاريخ وتقاطعه مع مشكلات الشعوب العربية، كمفكر من مواقفه التي تستحق الإشادة ترك العمل السياسي وتفرغه للكتابة والبحث، وإخلاصه للحرية كمفهوم وحياة الجابري الذي قسم العقل العربي إلى ثلاثة أقسام: (العقل البياني، العقل العرفاني، العقل البرهاني) فاتحًا لجميع القراء دون استثناء حق مراجعة نصوص التراث وطرح الأسئلة لا تكفيه تلويحة كلام. مفكر بمعنى الكلمة وفي مصر وصف عدد من المفكرين والكُتّاب والمثقفين رحيل الجابري بال“خسارة الكبيرة للأمة العربية وللفكر العربي الحديث، حيث يقول الناقد الدكتور جابر عصفور : “إن رحيل الجابري في هذه اللحظة الحالكة من تاريخ الأمة العربية يعد خسارة فادحة، حيث إن الفكر يشهد تراجعًا كبيرًا، بالإشارة إلى أن الذين يرحلون من المفكرين العرب ليس ثمة من يحل محلهم من الأجيال التالية، ففي غضون شهر واحد خسرنا فؤاد زكريا والجابري، وهما عملاقان فكريان قلّ نظيرهما”. ويواصل عصفور حديثه مضيفًا: “كان الجابري مفكرًا بمعنى الكلمة، أي منتجًا للأفكار الفعالة والجديدة، لم يقبل بالقوالب الجاهزة، وإنما ظلّ يبدع أفكارًا جديدة حتى وفاته، وحاول أن يبتكر منظومة كاملة من المفاهيم المترابطة من أجل الغوص في قلب التراث العربي الإسلامي، وإدراك جوهره واكتشاف وحدته الدفينة وأنساقه الباطنية، وإضاءة الحاضر بالماضي، وكان صاحب مشروع ضخم يهدف إلى استكشاف جوانب التراث العربي الإسلامي من زواياه شتى، واستطاع أن ينشئ صورة مفصلة لبنية هذا التراث من جوانبه: المعرفي والسياسي والأخلاقي، وترك بذلك أثرًا ملحوظًا على الثقافة العربية الحديثة. وأكد عصفور أن أسلوب الجابري اتسم بعنصري: الاستشراف، والاستكشاف. مضيفًا: “عندما نقرأ كتابه “نحن والتراث” -على سبيل المثال- نخال أنفسنا نقرأ رواية بوليسية مشوقة، فهو لا يطرح الفلسفة العربية الإسلامية بصورة سردية، وإنما بصورة حفرية، فهو يحفر في التراث على غرار كتّاب الرواية البوليسية من أجل الكشف عن أسراره وألغازه”. وخلص عصفور بالإشارة إلى أن إنجاز الجابري الضخم يمثل ركنًا أساسيًا من المكتبة الفكرية العربية الحديثة. الحفيد الأكبر لابن رشد الشاعر عبدالرحمن الأبنودي قال: “بوفاة المفكر والفيلسوف العربي الكبير والمجدد محمد عابد الجابري تخسر حركة الفكر العربي علمًا كبيرًا من أعلامها، كونه رسّخ وأقام معمارًا جديدًا للعقلانية النقدية العربية، وقد تمكن من خلال هذا المعمار أنْ يكشف آليات التفكير العربية عند العديد من التيارات الفكرية المتناقضة ظاهريًا، مثل: السلفية والماركسية والقومية، برغم أنها -من حيث المضمون- تلتقي عند نقطة الاستبداد والفردانية ومحاصرة التفكير العقلاني، كما قُيض للراحل الكبير أنْ يكشف الأقانيم السياسية في الفكر العربي الإسلامي، ممثلة في عالم البرهان الذي تجسّد في الفكر الفلسفي، وعالَم البيان الذي تجسّد في الفكر الأدبي، وعالم العرفان الذي تجسّد في الفكر الصوفي، وأعتقد أننا سنكون -ولسنوات طويلة- في حاجة ماسة لمن يمكن أنْ يستأنف المشروع العقلاني النقدي الكبير الذي أطلقه محمد عابد الجابري، أو الحفيد الأكبر لابن رشد. منهجية العقلانية النقدية ويضع الروائي إبراهيم أصلان شهادته بححق الجابري في سياق قوله: “شكّلت مجموعة من المفكرين العرب المعاصرين وعلى رأسهم الراحل الكبير محمد عابد الجابري نقطة تحول في مسيرة الفكر العربي المعاصر بتبنيهم العقلانية النقدية كمنهجية ورؤية، والاتجاه نحو إنجاز مشروعات نقدية تركيبية كبرى في الفكر العربي، وكان أهم هذه المشروعات مشروع الجابري: (نقد العقل العربي) الذي بدأ ب “تكوين العقل” وانتهى بالجزء الرابع “نقد العقل الأخلاقي العربي”، وقد مهد الجابري لمشروعه في دراساته الأولى “نحن والتراث” و”الخطاب العربي المعاصر”، وتميزت دراساته ومعالجاته بطول النفس وغزارة الإنتاج وأصالة في التحليل والتركيب وقدرة فذة على استعارة المفاهيم وتبيئتها في الفلسفة العربية وتركيب منهجية جديدة لتلائم الموضوع المطروح، ومن جهة أخرى كان الراحل الكبير دائم الحرص على توضيح منهجيته لتوصيل أفكاره كما يريد؛ ولهذا فقد أولى أهمية بالغة لكتابة مقدمات منهجية وافتتاحيات مطولة في كتبه الأساسية. مساجلات حيوية أما الكاتب جمال الغيطاني فيقول: “إن محمد عابد الجابري أحدث حراكًا كبيرًا في الفكر العربي المعاصر، أوجد توازنًا في الفكر العربي بين المشرق والمغرب العربيين” مذكرًا بالمساجلات الحيوية التي دارت بين الجابري وجورج طرابيشي، والتي قال: إنها ذكرته بالمناظرة التاريخية التي جرت بين الغزالي في المشرق وابن رشد في المغرب. وقال: “إن المفكر والفيلسوف محمد عابد الجابري كان مالئ الدنيا وشاغل الناس على مستوى النقاش والفكر والبحث التراثي”. مضيفًا: “إن وفاته خسارة كبرى للفكر العربي وخاصة الفكر النقدي الذي يعيد النظر في قضايا التراث”. كما أشار إلى أن صدور كتاب الجابري «نقد العقل العربي» باللغة الألمانية، سنة 2009 أثار نقاشًا مهمًا في الأوساط الإعلامية والثقافية والفكرية الألمانية، واحتضنت «دار ثقافات العالم» في برلين خلال يوليو الماضي إحدى جلسات هذا النقاش. القعيد: من الوجوه التي ولجت الحقل الفكري لتحرير العقل العربي من جوانب متخلفة تحرير العقل العربي وأكد الروائى يوسف القعيد أن الوطن العربي من المحيط إلى الخليج يشارك المغرب حزنه على فقدان رجل فى وزن محمد عابد الجابري الذي تجاوز بإبداعه الفكري العظيم حدود البلد الذي نشأ فيه. مضيفًا: “إن الفكر العربي سيظل يذكر الفقيد، كعلم شامخ ساهم في إشعاع الدور الفكري للمغرب وكذلك المفكر الذي أكد أن «المغرب قادر على إنتاج الفطاحل والإسهام في الفكر العربي الذي يلامس القضايا المؤرقة والصعبة جدًا”. وقال: “إن الجابري الذي جمعته به علاقات وطيدة اضطلع بأدوار مهمة في أكثر من محطة، مشيرًا بشكل خاص إلى الدور الذي لعبه في المجال الإعلامي خاصة في جريدة (التحرير) التي كانت قد شرعت في الصدور خلال خمسينيات القرن الماضي. أوضح أن أبرز منجزات المفكر الراحل في الميدان الثقافي والفكري هو تناول الجانب المتعلق بنقد العقل العربي، مبرزًا أن الجابري، الذي يعتبر أحد الأسماء المثقفة المرتبطة بالحياة السياسية، يعد من الوجوه التي ولجت الحقل الفكري لتحرير العقل العربي من جوانب متخلفة. الحاضر الغائب ومن جهته قال الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: “إن الجابري يعد علامة بارزة ومضيئة في المشهد الثقافي المغربي والعربي والعالمي، ومفكرًا ذا شخصية متعددة الأبعاد”، مضيفًا: “إن الفقيد كان رجلًا وطنيًا بامتياز ومؤسسًا للجامعة المغربية. مشيرًا إلى أن الجابري سيظل الغائب الحاضر بين المثقفين؛ لانه ترك مجموعة مهمة من المؤلفات يفخر بها العرب والمثقفون. مؤكدًا أن العرب فقدوا في شخص محمد عابد الجابري رجلًا أثر بعمق في الحركة السياسية والحركة الثقافية على حد سواء، مشيرًا إلى أن الفقيد كان أحد أهم المثقفين الذين ساهموا في تحديث العمل السياسي العربي، وفي بلورة خط سياسي واضح مرتبط بالنضال من أجل الديمقراطية.