يذكر كل من عاش في أرض هذا الوطن، في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أن العلاج والدواء كانا يقدمان للمواطن بالمجان من خلال المستشفيات الحكومية، وكانت إحدى معالم هذه الخدمة الطبية المجانية في مدينة جدة «الصحية» في باب شريف الذي كان يتم فيه الكشف على كل المرضى ويوصف لهم الدواء الذي يصرف لهم منها قبل مغادرتهم لها. هذا العلاج والدواء المجاني استمر لسنوات طويلة واستفاد منه كل المرضى من المواطنين. منظومة طبية رائعة تتفق مع معطيات الزمان الذي كانت فيه، وفرضت نوعاً من الاطمئنان عند الناس لأن الدولة تعالج كل المرضى من المواطنين، وأصبح الناس في ذلك الزمان يرددون انه لا خوف من المرض لتوفر العلاج له بدون مقابل، وتميز الحكم في ذلك الزمان بما يقدمه من علاج ودواء مجاني عبر مستشفياته المنتشرة في المدن المختلفة. هذه الظاهرة الطبية في عهد الملك عبدالعزيز كانت تمثل مسلكاً حضارياً لأنها تقدم التأمين الصحي العام لكل المواطنين، ولا نجافي الحقيقة لو قلنا إنها شملت ايضاً المقيمين على أرض هذا الوطن، صحيح انه لم يعلن في ذلك الوقت عن التأمين الصحي العام، وإنما كان يمارس بصورة عملية استفاد منه كل خلق الله من المرضى، واطمئنت له قلوب الأصحاء من الناس لإدراكهم بأن العلاج المجاني والدواء المجاني يتصديان لكل الأمراض التي قد تصيبهم من الزكمة إلى غيرها من الأمراض، ويغطي هذا العلاج المواطن وأسرته بالتمام والكمال مما جعل هذا التمام والكمال لا يشغل عقولهم إطلاقاً لمواجهة مصاريف تحمل العلاج لأنه مجاني وبدون مقابل وهذه الحقيقة تجعل بلادنا من أولى الدول التي أخذت بالتأمين الصحي العام بشكل عملي فهي رائدة فيه لأنها فرضت العلاج والدواء المجاني منذ وقت مبكر للغاية. هذه الصورة المشرقة من ذكريات الماضي اختلفت في هذه الأيام وأصبحنا أمام ظاهرة فريدة في بلادنا حيث يتمتع بالتأمين الصحي العام العاملون من المواطنين والأجانب في الشركات الكبرى التي تقوم بالتأمين عليهم عند شركات التأمين، أما المواطن العادي الكبير في السن الذي يحتاج إلى العلاج لا تقبل هذه الشركات للتأمين فرض مظلتها العلاجية عليه لأنه بحكم تقدم العمر معرض للاصابة بالعديد من الأمراض مما يجعل مسألة التأمين عليه فيها احتمالات خسارة لأنه إما رجل أو امرأة «يعيش برجل في الدنيا ورجل في الآخرة»، وعدم التأمين على كبار السن وجعلهم من المتقاعدين يحرمهم تماماً من العلاج والدواء لأنهم غير قادرين على تحمل تكلفته. هل تعلمين يا وزارة الصحة أن الطبيب الاستشاري يحصل مقابل الكشف عنده على 300 ريال وإذا علمنا بأن 80٪ من المتقاعدين الذين يحتاجون إلى الكشف والعلاج بإلحاح لا يزيد دخلهم الشهري عن 1800 ريال، فكيف يستطيع ان يدفع قيمة الكشف عند الاستشاري الذي يحصل على 300 ريال وتقدمه في السن يحتاج إلى الكشف عن أكثر من طبيب استشاري للقلب وللضغط والسكر والعين وللصدر وكلها أمراض مستعصية تحتاج إلى متابعة وتكرار، أما الدواء فحدث ولا حرج، فأسعاره نار مشتعلة مما جعل كثير من المرضى الفقراء يتحملون ألم المرض لأنهم لا يمتلكون القدرة المالية على شراء الدواء. هذه المشكلة ليست خاصة بنا فهي قضية اجتماعية كبرى عند كل الشعوب والأمم، وعولجت بالتأمين الصحي العام على كل المواطنين في الدول المختلفة، ويستفيد منه حتى المقيمين بها لأنها مشكلة تتعلق بحياة الإنسان فوق أرض الوطن، مما جعل التأمين الصحي العام مظلة تظلل كل من يعيش على أرض الوطن بحيث يعالج مجاناً أو برسم مالي يقرب من المجان واتفقت الجهات المسؤولة في الدول المختلفة تحت مظلة منظمة الصحة العالمية بأن يكون دواء الأمراض المستعصية بالمجان كالضغط والسكر والقلب إلى آخر قائمة هذه الأمراض المستعصية، على أن تعوض الدولة بالقيمة تجار الأدوية عما يصرفون بالمجان لهؤلاء المرضى، وكذلك تتحمل الدولة الفرق بين قيمة الكشف المقررة وبين ما تفرضه من قيمة للكشف تحت مظلة التأمين الصحي العام. لاشك أن إقرار نظام التأمين الصحي العام على كل المواطنين ليحصلوا على العلاج والدواء مجاناً كما كان الوضع في بلادنا أيام زمان هو في حقيقته نظام تكافلي بحيث يتم الدفع وفقاً للقدرة المالية، فمن يقوم بالدفع الأكبر يحصل على مميزات فندقية بالمستشفيات وأسبقية في الكشف وكلما تدنى الدفع كلما قلت هذه المميزات على شرط ان لا يحرم من هذا التأمين الصحي العام الذين لا يمتلكون القدرة المالية للدفع، فيتم اشراكهم به بالمجان يحصلون على نفس العلاج وينالون الدواء دون نقصان، وتتحمل الجهة المؤمنة كل هذه التكاليف لأنها تحصل على فائض كبير من الدخل يدفعه القادرون، وإدارة هذا المال واستثماره تمكن من تغطية كل الفئات المؤمنة بالدخول المختلفة لأن الدفع كما قلنا يتم حسب القدرة المالية بجانب وجود شريحة من الناس يغطون بالتأمين الصحي العام بالمجان. إن الحاجة ملحة لفرض التأمين الصحي العام لأن فئات كثيرة من الناس تعجزهم قدراتهم على مواجهة المرض أو شراء الدواء وهم من المتقاعدين المتقدمين في العمر والمصابين بأمراض الشيخوخة التي تحتاج إلى مواصلة العلاج والاستمرار في تعاطي الدواء، مما يفرض تحت مظلة التأمين الصحي العام الحصول عليهما بالمجان.