هذه المرة أكتب بنيات متعددة، لكتابة ليست صحفية بقدر ماهي ضوضاء تخرج من ذلك المكان الذي زرته ذات صباح، كان مغايراً للأشياء الدفينة بين جدران عالية السور، مطأطئة الرأس نحو الأفق الغائب، الذي يحبس الضوء في ذاكرته المثقوبة، ثم يعيد ترتيب نفسه كأي كائن نما ثم مات، فعاد لنمو من جديد، مررت هناك بوجوه لامست الظلام من عمرها، حيث سراديب طويلة وممرات شائكة وموت بطيء جداً، يغيض الروح، ويجعلها في معزل عن السماء والأرض، وبينهما الهواء، كيف يمكن لي أن أجتر ما شاهدت من أشخاص عبروا مسامعي، وشيء من روحي، ليوصلونني إلى حكايات من قصص الإدمان التي عجلت كثيراً بخسارتهم، بأوجاعهم بمنتصف الطريق.. أردت أن أسلط ضوء قلمي الصحفي على غرفهم السابقة المظلمة فوجدتني أقع بداخل غرف ضوضاء الروح وأسئلتها.. إنهم مدمنون سابقون يرتدون قبعات العودة إلى الحياة بوجه آخر جديد.. إنهم اليوم أكثر من أسوياء بعد المحنة وربما أكثر رؤية للأشياء. حبوب منشطة في البداية دخلت برفقة مرشد التعافي بمجمع الأمل بالدمام «حسين اليامي» إلى غرفة بدت كأنها قاعة للتعليم وإعطاء الدروس، وقد كان «عبدالله» يجلس على المقعد في هدوء كما لو كان يرافق الصمت لفرط سكونه، يواجه المكتب الفارغ الذي خيل إلي بأنه يواسي صمته ذلك.. بعيون امتد فيها الحزن مسافات شاسعة نحو الماضي، أخذ «عبدالله» 42 سنة المدمن السابق الذي شفي من إدمانه؛ وأصبح الآن أحد المرشدين للعلاج من الأدمان بمجمع الأمل؛ يسرد حكايته التي بدأها بالعودة إلى الأيام التي كان فيها يعمل في وظيفة مرموقة، التي حصل عليها من خلال تميزه وجهده في العمل، حيث كان يبلغ من العمر 20 سنة في تلك الفترة لينطلق إلى هوايته لاعب كرة عرف بتميزه ومهارته في قنص الكرة، ومن هناك كانت قصة وقوعه في الإدمان، فقبل إحدى المباراة شعر بتعب شديد الأمر الذي دفع أحد زملائه إلى أن يقدم له «حبوبا» وصفها بالمنشطة حتى يستطيع أن يؤدي المباراة بشكل جيد، فتناولها من دون أن يعرف أنها «حبوب مخدرة» وتلك كانت بداية الدخول إلى عالم الأدمان، الذي اكتشف أنه دخله بعد أن شعر بأن جسده بدأ يحتاجه؛ فسعى إلى الحصول عليه حتى اعتاد على تعاطيه، حاول «عبدالله» أن ينتزع الشفاء من الأدمان بدخوله عدة مراكز لعلاج الأدمان، إلا أن تلك المحاولات فشلت، حيث كان يفتقر إلى العزيمة والقناعة بترك تلك السموم، وفي كل مرة يعود أسوأ من وضعه الذي كان عليه؛ فالمخدرات كانت رفيقة جيبه، ولا يمكن أن يتخلى عنها حتى توسعت دائرة بحثه عن المخدرات من دائرة الأصدقاء إلى خارج ذلك النطاق؛ خاصة أن مبالغها المالية كانت في البداية مبالغ بسيطة، وبعد التعود أصبحت تزداد قيمتها، فأصبح لا يستطيع أن يوفر المال ليشتريها، فتدهورت أوضاعه، وترك العمل الذي كانت جهة عمله تسعى لدفعه للشفاء، ولكن دون جدوى، وأخذ يبحث عن سبيل للحصول على المال، فأخذ ينتزع المال من أسرته التي كان يعولها حتى قرر أن يدخل عالم الترويج، ليحصل على المخدرات. واستمرت حياته في التدهور وقد تخللتها محاولات غير جادة للشفاء، لكنه في كل مرة يدخل مركزا للعلاج يجد هناك من يروج للمخدرات بشكل أكبر مما عرفه؛ فيدخل ذلك العالم من جديد ولكنه بشكل أوسع حتى تحول كما عبر «عبدالله» بذلك لإنسان يعيش ليتعاطى، ويتعاطى ليعيش، لأكثر من خمس عشرة سنة؛ حاول كثيراً أن يخفي ذلك الظلام الذي يعيشه، وانغماسه في تعاطي المخدرات من الهروين والحشيش عن أسرته، التي كانت تتكون من والدته وشقيقاته، إلا أنه افتضح أمره لاسيما بعد أن ترك العمل. العقل يصحو في لحظة! يتوقف «عبدالله» وهو يسرد لي حكايته المملوءة بالظلام، يصمت، ثم يرخي رأسه في الأرض للحظات، تاركاً لبصره أن يتجول في المكان بتخبط وألم، ثم يطلق زفرته ويواصل حديثه عن أكثر موقف تسبب له بألم نفسي لا يستطيع حتى هذه اللحظة تجاوزه؛ وربما كان بدايته في الصحوة ليسرد لحظة غيابه عن المنزل ليومين بسبب انغماسه في جو المخدرات، حتى لحظة عودته التي فيها يدخل إلى بيته ليجد والدته برفقة شقيقاته يجلسن على سفرة الطعام في صمت مطبق، وحزن شديد، وما أن شاهدوه حتى تعالى البكاء والمرارة تتحشرج بداخل حلوقهن، فيما والدته كانت تطلق دموعها تنسرب على خديها في حسرة على ابنها الذي كان رب الأسرة، وكيف وصل حاله، من دون أن تنظر إليه، وذلك كان الموقف الصعب الذي بدأ فيه «عبدالله» يتنبه إلى أن هناك خطأ كبيرا لديه، حيث كان مسئولا عن تلك الأسرة ووجد نفسه تسبب في حزنها وفجيعتها، وتمضي الأيام ليجيء اليوم الذي يقرر فيه أن ينطلق إلى العمرة مع مجموعة من الشباب المرشدين من مجمع الأمل بالدمام، لتنفتح لديه الأبواب المغلقة لدى «الكعبة المشرفة» ويستجيب الله لدعوة والدته، فيقرر الالتحاق بمجمع الأمل للصحة النفسية بالدمام، ويغادر منطقته التي يسكن فيها؛ لكن هذه المرة يأتي الغياب محملاً بالأمل في الشفاء، حتى استطاع الالتحاق وتلقي العلاج في الأقسام الداخلية، التي كانت فيها رحلة العلاج صعبة حتى انتقل للمراحل الأخرىا من برنامج العلاج وشفي من الأدمان منذ أكثر من خمس سنوات؛ فتحول الآن إلى مرشد علاجي في المركزا وعاد إلى عمله الذي تقبل توبته وساعده على البدء من جديدا بعد أن عقد تصالحا مع ذاته بأن يتقبل مواجهة المجتمع الذي يحاول أن يستعيد ثقته وثقة أسرتها ولكنها «فواتير» كما عبر بذلك، حيث قرر «عبدالله» أن يسددها كاملة حتى يتطهر من سنوات الظلال التي عاشها مبديا أمانيه بأن يتعظ غيره بتلك التجربة، وبأن يملك أي مدمن الشجاعة للعودة من ذلك الطريق الأسود حتى يرى الحياة بشكل جديد. حشيش ورفقاء سوء! يسحب «ماجد» المقعد المجاور ل «عبدالله» ليجلس باتزان شديد وابتسامة رضا ويباغتني بقوله أنا قصتي تختلف عن «عبدالله».. نعم تختلف كثيراً، ثم تختفي تلك الابتسامة لتنسدل عليها خيوط الماضي الذي خيل إلي بأنه مازال يحمله بين يديه ويستطعمه في فمه، يحوم حوله كحقيقة لا يستطيع أن يهرب منها.. ثم يبدأ يسرد حكاية دخوله في طريق الإدمان. عاش ماجد الذي يبلغ 39 سنة في بيت جده مع باقي أسرته، وبرفقة شقيقه الأكبر في حياة لم يكن يرفض له طلب، أو ترد له أمنية، لكنه كان يحب شقيقه الكبير الذي كان في مرحلة العشرين في ذلك الوقت، وكان ماجد يراه المثل العظيم.. يحب فيه شخصيته وطريقة تعاطيه مع أسرته، ويراه كما لو كان العلامة البارزة لشخصية الرجل؛ لكن ماجد كان ابن 13 سنة في تلك الفترة، وكان يحلم بأن يكبر يوما ليشابه شقيقه، بدأ ماجد في تقليد ومراقبة جميع سلوكيات شقيقه حتى اكتشف يوماً بأن شقيقه يتناول «مادة» لم يكن يعرف ما هي، فحصل على تلك المادة خفية وانطلق يسأل أصدقاءه في الحي عن اسمها؟ وفيم تستخدم؟؛ حتى اكتشف يوما أنها «مادة الحشيش» وأن شقيقه مدمن، فأصبح يتباهى بالحشيش، وبأنه يتناولها كالكبار أمام أصدقائه، من دون أن يتعاطاها حقيقة؛ حتى كبرت اللعبة لديه وأراد أن يقلد أخاه في التعاطي لتلك المادة المخدرة، فلجأ إلى أصدقاء شقيقه حتى يعلموه كيف يستخدمها؛ ومن هنا دخل «ماجد» عالم الكبار القذر من دون أن يدري مخاطر الطريق. قدوة فاسدة! وبعد أن علم أخوه الأكبر أن «ماجد» الصغير يتعاطى الحشيش والمخدرات من أصدقائه، ما كان منه سوى أن أخذ «ماجد» وقال له: «إذا كنت تريد أن تتعاطى فأنا أولى بك، تتعاطى معي أفضل من أن تتعاطى مع غيري» بارك الأخ القدوة دخول «ماجد» طريق المخدرات ودخل معه عالمه المرعب، حتى أصبح في تلك الفترة أصغر مدمن دخل إلى مستشفيات علاج الإدمان؛ لكنه في كل مرة يخرج فيجد شقيقه ينتظر أن يدخله إلى عالمه المشوه، فيعود من جديد للإدمان، ثم يدخل للعلاج من جديد، مع دخول متكرر ل «السجن»، ثم يعود من جديد للإدمان، واستمر في ذلك التخبط «24» سنة، عانت خلالها أسرته من حالات الإدمان التي أفسدت حياته حتى قررت الأسرة أن تبعده عن عالم الإدمان وعالم شقيقه، فرتبت له دراسة خارج الوطن، كنوع من الحل وسافر ليكمل تعليمه في «لندن» التي مكث فيها إحدى عشرة سنة أكمل خلالها تعليمه الجامعي تخصص إدارة أعمال، وحصل على دورات في الطيران، وعلى الرغم من تخلصه من إدمان المخدرات؛ إلا أنه كان يتعاطى شراب الكحول، في الخارج فعاد إلى أرض الوطن ليجد «شقيقه مازال ينتظره في المنزل فمكث أربعة أشهر بعد العودة من السفر، ثم دخل مع شقيقه في تعاطي الهروين، وأعاده من جديد لعالم الإدمان، بعد أن علقت الأسرة آمالاً كبيرة عليه، وأخذت تفتخر بعودته حاملاً شهاداته العلمية، التي قام والده بتعليقها في المنزل افتخاراً بالابن المتفوق الناجح. إلا أن تلك السعادة لم تكتمل بعد أن اكتشفوا أن «ماجد» الشاب المتعلم في الخارج والمتفوق عاد للأدمان من جديد، فتحطمت أسرته وطرده والده من المنزل، وبكت والدته بكاء شديداً، لترفع يديها تدعو الله أن يخلصها من الكوارث التي يسببها لهم «ماجد»، حتى تنقل «ماجد» بين المغرب ومصر ولبنان يطلب العلاج والتخلص من الأدمان، من دون جدوى، فتلك المحاولة كانت نابعة من رغبته في إرضائهم وليس عن قناعه منه. صباح العيد.. غير ولأن التغيير لا يجيء إلا من انصهار جليد الظلال، جاء ذلك الانصهار نتيجة موقفين شعر «ماجد» بأنه انكسر من خلالهما؛ الأول حينما وجد نفسه يوضع كشاهد على زواج ابنة عمه التي كان يرغب بالزواج منها، وبسبب إدمانه زوجت لرجل آخر، والموقف الثاني حينما خرج مع والدته ليلة العيد لتشتري ثياب العيد الجديدة، وقد كان في حالة إدمان، وحينما جاء صباح العيد دخل على والدته في غرفتها فوجدها ترخي رأسها المملوء بالهموم على إحدى يديها وتبكي، وحينما سألها «ماجد» لماذا لم ترتد الثياب الجديدة وتخرجي للعيد؟، قالت والألم يعصر قلبها «كيف أعيد وأنت في هذه الحالة يا ابني؟»، فشعر بتحول كبير بداخله وبأنه سبب الكثير من الوجع لأسرته، وفقد جميع الأشياء التي يحبها؛ فقرر أن يكون جاداً في طلب العلاج، حتى سمع ببرنامج التعافي والشفاء من الإدمان بمستشفى الأمل بالدمام، فقرر أن يخوض التجربة؛ وكانت هنا نقطة التحول فانتقل من منطقة سكنه إلى الدمام، ليخوض العلاج بإصرار لمدة سبع سنوات حصل فيها بعض الانتكاسات، حينما يعود إلى مسقط رأسه؛ لكنه بقي في مستشفى الأمل، ومازال في حالة تخلص من الإدمان استمرت لمدة عام؛ ويرغب «ماجد» أن يكون إنسانا جديدا وأن يتقبل المجتمع الطريق الجديد الذي يسير فيه ويقبله بقناعاته الجديدة، وأن ينظر للمدمن المتعافي بأنه شخص يحتاج إلى الدعم ليستمر في طريق العودة. (يتبع في الحلقة الثالثة.. غداً) أحد المسؤولين في المستشفى يشير إلى ركن علاج المدمنين عبدالله تحول إلى مرشد علاجي