هذه المرة أكتب بنيات متعددة، لكتابة ليست صحفية بقدر ماهي ضوضاء تخرج من ذلك المكان الذي زرته ذات صباح، كان مغايراً للأشياء الدفينة بين جدران عالية السور، مطأطئة الرأس نحو الأفق الغائب الذي يحبس الضوء في ذاكرته المثقوبة؛ ثم يعيد ترتيب نفسه كأي كائن نما ثم مات فعاد لنمو من جديد مررت هناك بوجوه لامست الظلام من عمرها، حيث سراديب طويلة وممرات شائكة وموت بطيء جداً يغيض الروح، ويجعلها في معزل عن السماء والأرض وبينهما الهواء، كيف يمكن لي أن أجتر ما شاهدت من أشخاص عبروا مسامعي وشيئاً من روحي ليوصلوني إلى حكايات من قصص الإدمان التي عجلت كثيراً بخسارتهم، بأوجاعهم بمنتصف الطريق.. أردت أن أسلط ضوء قلمي الصحفي على غرفهم السابقة المظلمة فوجدتني أقع بداخل غرف ضوضاء الروح وأسئلتها.. إنهم مدمنون سابقون يرتدون قبعات العودة إلى الحياة بوجه آخر جديد.. إنهم اليوم أكثر من أسوياء بعد المحنة وربما أكثر رؤية للأشياء. لحظات تأمل.. كنت أسابق بخطواتي المتسارعة عند مدخل مستشفى الأمل بالدمام فضولي بأن أفتح غيبيات ذلك الصندوق المجهول، أتيت إليه وفي فكري أسئلة ليست صحفية بقدر ماهي أسئلة إنسانية بحتة!.. كيف للمدمن أو المدمنة أن يختار أن يكون كائناً مقيداً وذليلاً لشيء في وقت أصبحنا نبحث فيه عن التحرر من جميع القيود لمفاهيم الأشياء؟، دخلت إلى المستشفى وقد كان يضع لوحة جميلة تحمل كلمة "أمل" فشعرت بأنني كمن يدخل إلى حديقة، وربما مما زاد ذلك الشعور لدي مقدار التنسيق والتنظيم والتعامل الراقي الذي كانت يتسم به مستشفى الأمل للصحة النفسية بالدمام، لكنني بعد أن التقيت بالمنسق الإعلامي"راشد الزهراني" ثم من هناك إلى المكان الذي سألتقي فيه بالشخصيات التي سأجري معها موضوعي، شعرت بأن هناك حدا فاصلا بين الباب الذي ندخل منه في ذلك المستشفى وبين الوجه الآخر للحقيقة.. وجدت مجموعة من المدمنين تختلف أعمارهم بين الشباب والطاعنين في السن يخرجون من قاعة بدت كما لو كانت لإعطاء الدروس يتوسطهم مكتب كان يجلس على مقعده مشرف التعافي بالمستشفى "حسين اليامي" والذي بدا رجلاً هادئاً، وقريباً من مرضاه حتى فرغت القاعة وطلب مني أن أبدأ لقائي بالمدمنات والمدمنين والذي لا أعرف كيف هنا شعرت بأنني كمن تركت سرعتي وانطلاقي عند باب تلك الغرفة ودخلت في حالة من الهدوء والتأمل؟، لكنني أدركت بعد ذلك بأن أصواتهم كانت أعلى من صرير القلم الصحفي الذي بداخلي لفرط أوجاعها وحسرتها. التفكك الأسري..! كانت تمسك بعباءتها السوداء لاتخرج من ذلك السواد سوى عينيها الصغيرتين، أحسست بها قلقة، أو ربما متعبة من طريق كان طويلا في حياتها جلست على المقعد المقابل لمقعدي تلم ركبتيها بيديها ثم تتحسس غطاء رأسها ..إنها إذاً العائدة من طريق الإدمان "أم محمد" 48 عاماً والتي عاشت في مدينة الدمام بممرات منزلقة نحو القاع قالت و"صوتها يسحب الحياة من بئر الخوف والحزن" كنت في الثامنة عشرة من عمري حينما مشيت في طريق الإدمان؛ كانت أسرتي تتكون من والديَّ وإخوتي وشقيقي الأكبر الذي كان يعول البيت، وكانت أسرتي الصغيرة تلك يخيم عليها الحزن والتعاسة؛ خاصة بعد أن أصيب والدي بالعمى بدأت عندها الأمور في التدهور وكان أخي المسؤول عن البيت "مدمناً للمخدرات" غائبا عن الوعي غارقا في ذلك العالم، وكنت أنا الفتاة الصغيرة التي لاتفهم من الحياة شيئاً، وتمر بظروف نفسية مضطربة، ولأنني كنت أرى أخي في حالة من الغياب الذهني كنت أرغب في أن أدخل عالمه لأغيب عن المآسي الموجودة في البيت، لكني أكثر جبناً من أن أطلب من أخي أن يقاسمني "المخدرات" فخرجت أبحث عن ذلك العالم خارج البيت فتعرفت على جيران لنا كانت أفراد الأسرة جميعهم مدمنين؛ فطلبت أن أدخل معهم في ذلك الجو حتى دخلت فيه بسهولة فكنت أنفث السجائر وأتعاطى المسكر وأنواعاً مختلفة من الحشيش والهروين، ومرت السنوات سريعاً.. وأنا في ذلك العالم المظلم والنوافذ المحملة بالهواء النقي موصدة أمامي والذي حتى بعد أن اكتشفه أخي لم ينتشلني منه، بل على العكس أصبح يشاركني تلك الأجواء الملوثة بذريعة النسيان وفي ظل توقفي عن التعليم، حيث وصلت إلى المرحلة الابتدائية فقط؛ ثم فضلت الخروج من المدرسة، فاتسع من حولي ذلك العالم وأصبحنا مجموعات كبيرة نسافر إلى مختلف الدول لنبحث عن تلك المتعة الوهمية وننغمس في أجواء المجون والليالي المليئة بالعزف والغناء والرحلات حتى بعدنا عن الأجواء الأسرية؛ وأصبحنا بشرا لاتبصر غير طريق الإدمان.. 30 عاماً من الضياع وقالت "ام محمد" عشت في ذلك الجو ثلاثين عاماً، ومما شجعني على الاستمرار زواجي من رجل مدمن كان من وسط تلك المجموعة والذي أكملت معه مسيرتي في الضلال وأنجبت منه ثلاثة من الذكور حتى توالت عليَّ الخسائر بعد وفاة زوجي بجرعة زائدة من الهروين؛ ثم وفاة والديَّ الضريرين بحسرتهما عليَّ بعد أن عرفا بحقيقة إدماني تبعهما وفاة اثنين من أبنائي بحادث سيارة؛ فشعرت بأن هناك عقاباً من الله يحيط بي. طريق العودة وتضيف: لكنني لم أستطع اتخاذ القرار بالعودة من ذلك الطريق والإقلاع عن الإدمان، إلا حينما بدأت صحتي في التدهور ودخلت في حالات من الاكتئاب الشديد وفقد الاتزان حتى أخذ ابني الوحيد والذي كان متفوقاً في دراسته يطلب مني ترك ذلك الطريق، فهددني بأنني إذا لم أترك طريق الإدمان فإنه سيدخل هو في ذلك الطريق ويترك تعليمه ومستقبله فخشيت عليه من واقع أمومتي وقررت أن أبدأ رحلة العلاج من الإدمان وبدأتها منذ سبع سنوات خلالها كنت آخذ منشطات كنوع من الوهم بأنها أخف من المخدرات، لذلك كنت أعود في كل مرة لمستشفى الأمل للعلاج من جديد واستمرت تلك الانتكاسات "11 مرة" والآن وصلت إلى الاستمرار ونجحت في التخلص منذ أكثر من سنة ونصف ومما ساعدني على الصمود رؤيتي لأخريات كثر في المستشفى كن مدمنات ثم شفين تماماً، لذلك وضعت ذلك الهدف أمامي والآن أحاول الحصول على دورات بعد الشفاء إرشادية في الإدمان لأفيد غيري من المدمنين، ولأكون ضمن المرشدين المتعافين؛ وإذا لم أستطع أن أمارس ذلك الإرشاد في أحد القطاعات أرغب بأن أقوم بذلك الإرشاد حتى إن مشيت في الشوارع لأتحدث عن خسائر طريق الإدمان وادعو المدمنين إلى العودة إلى الحياة، وبتلك الأمنية اختتمت "أم محمد" حديثها الصادق بعد أن تمنت بأن يساعدها المجتمع بوعيه على الصمود والاستمرار وهي إنسانة جديدة. تجربة مريرة وعلى خلاف "أم محمد" التقيت ب"أم سعد" والتي كانت تبدو عليها علامات الثقة والاتزان والهدوء وربما الكثير من الشخصية القوية الواثقة، حيث التقيتها وهي مجتازة لتلك المحنة بسنوات وهي موظفة في مستشفى الأمل والذي شعرت بأنني أرغب في رفع قبعة الاحترام لمواقف مدير المستشفى الإنسانية؛ والذي يمنح للمدمنين ذلك القدر من الأمل والأمان الاجتماعي يمنحهم الوظيفة التي منها تنبثق الحياة من جديد. كانت "أم سعد" تسرد حكايتها وفي صوتها راحة الانتصار؛ ولكنها تضطر لأن تستعيد ملامح الماضي بوجهه القبيح ورائحته الكريهة لتخبرني كيف كانت وإلى أين وصلت.. تعاطٍ وترويج..وسجن! تقول "أم سعد" تزوجت من رجل كان يدمن طوال اليوم وقد كان عمري في تلك الأثناء "19 عاماً"، وكنت أشاهد الكثير من النساء والرجال يزورون زوجي في البيت ويشترون منه "المخدر" وكنت لا أعرف أسباب ما أشاهده، ولكنني مع البحث اكتشفت بأنه يدمن المخدرات والحشيش وربما ذلك السبب هو الذي يدفعه لضربي بين الحين والآخر؛ حتى طلبت منه أن أجرب التعاطي فلم يمانع، بل أبدى سعادته بقوله "تتعاطين معي أفضل من أن تتعاطي مع غيري" بتلك العبارة دخلت عالم زوجي من الإدمان حتى توسعت الدائرة وأصبحت أدخل في أجواء السهر والتعاطي؛ ليس فقط معه بل مع أصدقائه والذي لم يكن زوجي يمانع من وجودي معهم، واستمررت في ذلك الطريق أكثر من خمس عشرة سنة خلالها أنجبت أربعة أطفال ودخلت إلى السجن أكثر من مرة؛ وخلال إقامتي في السجن النسائي تعرفت على مروجات للمخدرات توثقت علاقتي بهن وتبادلت معهن الأرقام حتى نتواصل بعد خروجنا، وقد زودوني بأرقام لأناس جدد في تعاطي وترويج المخدرات، وحينما خرجت من السجن طلبت الطلاق من زوجي وتطلقت ودخلت في علاقة تعارف مع بعض أصدقائه وبعض السجينات اللواتي كنت معهن في السجن، وخلال تلك الفترة خسرت أسرتي فتبرأت مني أسرتي وقاطعوني، وذلك مما زود انغماسي في ذلك الطريق حتى أن والدتي توفيت ولم أعرف بوفاتها إلا بعد أشهر من الوفاة، وأصبحت في حالة من الضياع فأبنائي أخذتهم أسرة لتربيتهم وأصبحت مشردة أعيش حالة من التيه مع أصدقائي المدمنين، وحتى وصلت إلى مرحلة أصبحت أنام في الشارع وفي الخرائب والحدائق، حيث لم يكن لدي بيت آوي إليه، وتعرضت للكثير من المخاطر في الشارع من الضرب وأصبحت أقدم كل ما يطلب مني من أجل الحصول على المال لشراء المخدرات، وحتى وصلت إلى عالم الترويج للمخدرات من أجل أن أحصل على المال لأشتريه؛ وكنت أسافر لترويج ذلك، وكنت كثيراً ما يقبض علي في حملات تفتيش من قبل الشرطة في المطار أو حينما أسافر بالسيارة؛ ثم أحال لسجن حتى بدت الحياة تضيق علي. طريق الخلاص وتضيف: عندها قررت أن أترك ذلك الطريق وأعود لاسيما بعد أن وجدت بأن غالبية من كُن معي من المتعاطيات توفين بجرعات زائدة، فدخلت مستشفى الأمل للصحة النفسية بالدمام وخضعت للعلاج بإصرار على أن أتخلص وأعود من حالة الضياع تلك وشفيت وقد مضى على شفائي أكثر من خمس سنوات، واليوم أنا أعمل موظفة و"حياتي نظيفة" ولدي بيت وأبنائي الذين تخليت عنهم، وأعيش الحياة بشكل جديد؛ خاصة بعد أن تقبلتني أسرتي من جديد ودخلت عدة دورات في الإرشاد لتغيير الحياة وفن مهارات التعامل. يتبع في الحلقة الثانية.. غداً شبان يخرجون من "النفق المظلم"..