إن هؤلاء الذين يجري استغفالهم الآن، من قبل هذه (الأقلية) المتطرفة، الأقلية التي تخدعهم بشعارات الدين، سيفيقون بعد حين، وسيكتشفون أنهم كانوا مجرد أدوات تستخدم في الصراع الإيديولوجي، الذي يحاول خطاب الجهل والتقليد الإمساك بمكتسباته الواقعية من خلاله. وهذا ما يكشفه هذا الكتاب في مؤداه النهائي، حيث تظهر الوثائق والوقائع أن الدين وشعاراته المقدسة، تم توظيفها لتنفير الناس من أقدس الأشياء لدى الإنسان، من التعليم الذي كان مسألة: حياة أو موت. وكما جرى استغلال منظومة الدين، فقد جرى توظيف الخرافة، بعد إضفاء الطابع الشرعي عليها. وهذا ما نراه ص 56 في قصة الرجل الذي كان مؤيدا لتعليم البنات، وكان التقليديون من أهل بلدته يرونه بهذا خارجا على قطعيات الدين. ولهذا، فعندما سافر إلى الرياض مؤيدا تعليم المرأة ومرض في سفره هذا، قام التقليديون بتفسير الأمر على نحو خرافي. فقد زعموا أن مرض الرجل ليس إلا عقوبة من الله نزلت به؛ لأنه بزعمهم خرج على رأي الدين وأهله. وطبعا، الدين هنا ما يرونه، ورأي الدين هو رأيهم. فهم حسب هذا المفهوم الدين، ومن عارضهم عارض الدين! وهكذا، ينجح هؤلاء في وضع الإنسان التقي الذي لا يمتلك آلية الفرز بين ما يرونه خيارات متضادة، يستحيل الجمع بينها. وهذا ما يشير إليه الوشمي ص 18 بقوله : "أصبح المجتمع حائرا بين من يبشرونه بالنهضة، ومن يحذرونه من ارتكاب ما يغضب الله". وهذه إحدى الآليات الجهنمية يمارسها الخداع التقليدي للجماهير، حيث يتم إيهام البسطاء بحرمة ما ليس بحرام، ثم يضعونه أمام خيار لم يكن خيارا. وهكذا يتصور في ظل غياب / تغييب النقد الذي يعري هذا التزييف أنه يختار بين حرام وحلال. بينما هو في الواقع يختار بين الحلال، وأوهام التقليديين. فيضحي بأغلى الأشياء في سبيل ( وهم ) في رأس جاهل لا يستطيع استيعاب ما يجري أمام ناظريه. وبهذا يُضطر الإنسان البسيط إلى تحمل وزر جهالات هؤلاء الجهلاء. هؤلاء الجهلاء المُحرّضون، هم منبع التعصب والتشدد؛ نتيجة ضيق الأفق، ومن ثم، اعتمادهم نتيجة هذا الضيق على قراءة كسيحة للموروث، قراءة غير قادرة حتى على الوعي بالإمكانيات الكامنة في ذلك الموروث. ولهذا، لم يكن من المُستغرب أن يتخرّجَ الخوارجُ الإرهابيون على مقولات هؤلاء، وأن يكون هذا التيار الذي ينتظم هؤلاء المحرضين، هو الداعم بالفعل والقول، أو بالصمت الدال للإرهاب على مستويي: الفكر والسلوك المباشر. فهؤلاء يجعلون من هذه المسائل المدنية الخالصة ( كتعليم البنات..) مسائل ذات دلالات دينية عميقة، يربطونها بشكل مباشر أو غير مباشر بأصول الاعتقاد. وحين يصل الأمر إلى هذا الحد؛ يستطيعون نزع الشرعية عن الجميع، وإعلان الحرب على كل المخالفين لهم، بزعم أنهم يدافعون عن الدين ضد أعداء الدين. وبما أن الإنسان الجماهيري الساذج، يُؤخذ على حين جهل ! بمثل هذا الخطاب الشعاراتي، الذي يدّعي حماية الدين ضد أعدائه، فإنه يمكن أن ينساق إلى أقصى حدود التطرف، على القتل، فيما لو تم إيهامه أنه بهذا ينافح عن صريح الدين. وكمثال على هذا، يذكر الوشمي ص 31 أن إحدى المناطق التقليدية كادت تقتل مندوب تعليم البنات، بعد أن خطب خطيب الجمعة عن ( منكر تعليم البنات) وكان هذا المندوب حاضرا الصلاة، والناس لا يعرفونه؛ لأنه لم يحضر إلا قبل ساعات، فسارع بالهروب. ولولا هروبه؛ لكان من المقتولين بفتوى متهورة من فتاوى تيار المتطرفين الإرهابيين. ليست المعضلة هنا في هؤلاء البسطاء السذج، الذين سمعوا من خطيب الجامع أن دينهم يتعرض للخطر، وأن (أعراضهم) ستستباح!؛ فسارعوا إلى محاولة قتل أقرب المتهمين، بل المعضلة تكمن في خطاب الجهل المُحرّض بجهله و نزقه وضيق أفقه. فسدنة هذا الخطاب يعون طبيعة ما يفعلون، أقصد طبيعة التحريض الذي يمارسونه، وما سيؤدي إليه؛ عندما يتم إشعاله سعارا في قلوب جماهير البسطاء. وهؤلاء البسطاء لا يدركون طبيعة التحريض، ولا أهدافه التي يتغياها خطاب الجهل والتجهيل. إن هؤلاء البسطاء قد يدركون في لحظة انتباه عابرة أن تشنج هذا الخطاب ينطوي على مبالغات كبرى. لكنهم لا يتصورون أن الكذب الجلي والبهتان والصريح، قد يمارسهما خطاب الجهل؛ تحت مبررات النصح والإصلاح. فنتيجة التلبس بالديني، والتمظهر بالتقوى، يرى الجماهيري الساذج أن هؤلاء المُحرّضين قد يتطرفون عن (حسن قصد!)، لكنهم في تصوره لا يكذبون!. فهل صحيح واقعيا أنهم لا يكذبون، أو أنهم يتحرجون من الكذب والبهتان؟. الوشمي في كتابه ص 62، يذكر أن الكذب الصريح، بل وشهادة الزور، قد يمارسها هؤلاء؛ تحت مبررات النصح والإصلاح (الإصلاح من وجهة نظرهم؛ كمنع التعليم) فيذكر قصة محاولة المتطرفين منع مدرستي جدة بشهادات كاذبة، ويعقب على ذلك بقوله : "وجدنا الرجل الذي يريد النصح والتغيير [ يقصد تغيير المنكر المتمثل هنا في فتح مدرستي بنات ] لا يمتنع عن البهتان والكذب رغبة في تحقيق أهدافه ". ثم يشير إلى نموذج آخر للبهتان، وذلك في قصة ذلك الخطيب المتطرف الذي عارض قرار (الدمج) بخطبة ملتهبة، مليئة بالاتهامات الكاذبة، الصريحة في كذبها، لرجالات وزارة التعليم. فهذا الخطيب، مع علمه بزيف تهمه؛ إلا أنه كان يرى أن هذا الكذب جائز في سبيل الانتصار لخطاب سادته المتطرفين. بوجود الكذب، وشرعنة هذا الكذب، تسقط مصداقية أي خطاب. قد تُحتمل كثير من الأخطاء الفادحة، وقد تتجاوز الجماهير عن كل شيء؛ إلا شيئا يمس المصداقية التي تقوم عليها ركائز أي خطاب؛ مهما كان اتجاهه ومهما كانت مكوناته الداخلية. ولهذا، فعندما تدرك الجماهير أن هؤلاء يمارسون الكذب في كل شيء؛ لأجل ما يرونه إصلاحا، وأن الكذب قد يأتي مع الأيمان المغلظة، فإن كل الخطاب يصبح سلسلة من الأكاذيب؛ حتى بعض المفردات الصادقة تصبح أكذوبة؛ عندما ترد في سياق التأسيس لأكذوبة كبرى. ربما يتصور بعضنا أن هؤلاء المتطرفين يُجيزون الكذب في حالة الاضطرار الشديد فحسب، كما حال فتاوى رموز الإرهابيين الذي أجازوا شهادة الزور؛ من أجل التعمية على نشاطاتهم الإرهابية. لكنهم في الواقع يجيزون شهادة الزور في كل صغير وكبير؛ ما دام أن الدافع لهذه الشهادة المزورة، هو الدفاع عن خطابهم الخاص، الذي يرون أن الشرعية فيه وحده، وأن كل خطاب سواه باطل. ولهذا يجب التحسس والتوجس من تلك الشهادات التي كثيرا يُوردونها في سياق تأييد وتثبيت خطابهم، ومن تلك القصص التي يروونها؛ مشحونة بالمبالغات التي لا يقصدون بها إلا إشعال الخيال وإلهاب العاطفة؛ لاختطاف العقل. لقد كان تعليم البنات في نظرهم منكر المنكرات التي يجب التصدي لها ولو بشهادات الزور المزورة. وفي كل مرة كانت وتكون وستكون ! هناك قصة كقصة تعليم البنات. وسيقف المتطرفون بكل إصرار ضدها، ليس بمجرد أراء خاصة بهم، لا يلزمون بها إلا أنفسهم، وإنما بتصعيد آرائهم الخاصة؛ لتكون هي شريعة الله، التي يجب على الجميع الخضوع لها. بل لقد وصل الأمر بهذا الخطاب على أن يحاول الذين اعتنقوه أن يفرضوه على بناتهم وحفيداتهم. يذكر الوشمي ص 166، بعض الرافضين لتعليم البنات كتب في وصيته بأن لا تتعلم بناته في مدارس الحكومة، وبعضهم هاجر إلى النخيل، و بعض هؤلاء كان على صلة بالإرهابيين الذين اقتحموا الحرم المكي بداية القرن الهجري الحالي. وهذا الواقع فضلا عن تأكيده على العلاقة التي تربط الخطاب المتطرف عضويا بالإرهاب، فإنه أيضا يُظهر كيف أن جريمة الوعي المتطرف قادرة على أن تتمدد في الأبناء والأحفاد، وأن تتحكم في مصيرهم من وراء تراب القبر، حيث تُصادر حقوق الأحياء؛ إرضاء لرمَمِ الموتى التي لم يبق منها غير الهباء. هذا يدل على أن تعليم البنات لم يكن في نظرهم مجرد منكر يجب التصدي له، وإنما كان مشروع حرب على الدين. ولهذا رأينا كيف كانت الممانعة، وكيف استبيحت جميع الوسائل للتصدي لمشروع التعليم. وإذا كان هؤلاء هم التيار ذاته الذي مارس الممانعة من قبل في تعليم الذكور؛ حتى اضطرت الحكومة إلى إلحاق كثير من الطلاب بما يشبه الإكراه، فقد تم التصدي لهذه الممانعة بفرض التعليم في الواقع؛ مع ترك الخيار للمُمانعين، على اعتبار أن هذه مسألة حقوقية، يجب على الحكومة توفيرها، ومن لا يريد هذا الحق، فلا يُجبر على أخذه. ولهذا، فعندما حضر هؤلاء الممانعون معترضين على فتح مدارس البنات في مدنهم إلى الملك فيصل (الذي كان آنذاك وليا للعهد ورئيسا لمجلس الوزراء)، وطالبوه بأن يُوقف فتح مدارس البنات، قال لهم بكل صراحة وحزم كتاب الوشمي ص 42: " إن المدارس سوف تفتح، ولن نرسل قوت الشرطة لإجبار الناس على إلحاق بناتهم بها، والذي لا يريد لا نلزمه ". لا شك أن هذا وعي حقوقي. فالوطن وطن الجميع، وليس ميدانا لتمارس عليه الأقلية المتطرفة تأزماتها الخاصة. أن تكون متطرفا في نطاق ذاتك، بحيث لا يتعدى تطرفك على الآخرين، فهذا حقك. أما أن تحاول قسر المجتمع بكل مكوناته؛ ليعيش كما يُريد لك تطرُّفك، وفهمُك الخاص للدين، فهذا اعتداء صارخ على بدهيات الحقوق العامة التي تجب أن تقع تحت حماية وإشراف المؤسسات الرسمية المدنية، وأن تمنع (الأقليّة) المتطرفة من الاعتداء عليها. إن معظم القضايا التي يمارس خطاب التطرف الاحتراب عليها الآن، هي مسائل قابلة للتطبيق الاختياري. أي قابلة لأن يتم التعامل معها وفق كلمة الملك فيصل في تعليم البنات؛ عندما أكّدَ أن الحكومة لا تلزم أحدا بتعليم البنات، وفي الوقت نفسه، تتعهد بتوفير هذا التعليم لمن أراد. ولو تم التعامل مع قضايانا التي يمانع فيها المتطرفون على هذا النحو؛ لفقد الخطاب المتطرف حقه في الاعتراض؛ لأن كل القضايا التي يمانع فيها، ويتصادم مع الأغلبية بشأنها، مسائل اجتهادية، عارضه فيها كثير من المُجتهدين المعتدلين، أي أنها ليست من القطعيات الصريحة في الدين، بل هي مسائل مدنية طارئة، خالفت فيها الأقلية المتطرفة رأي الأغلبية الساحقة في كل أنحاء العالم الإسلامي. إشكالياتنا مع خطاب (الأقلية) المتطرفة ليست إشكاليات محصورة في هذا المثال ( = تعليم البنات، ومن قبله تعليم الذكور النظامي)، إنما هي إشكاليات دائمة متكررة، لن تنتهي حتى يتوقف الزمن نهائياً عن التقدم. حتى القضايا العالقة الآن، ستُحل عما قريب، ولكن، سيكون الزمن قد أتى بجديد آخر، سيقف منه خطاب التطرف والجهل الموقف نفسه. التعليم النظامي، الجيش النظامي، الالتزام بالحدود الجغرافية الوطنية، البرقيات، المذياع، الصور في الجرائد والمجلات، التلفزيون والفضائيات، مادة الجغرافيا، مادة علم النفس، اللغات، الابتعاث، الأدب الحديث، الحداثة، الليبرالية، الديمقراطية، تحديث وتقنين القضاء، السياحة الخارجية، قيادة المرأة، تولية المرأة، توظيف المرأة، الأحلاف الدولية، والأمم المتحدة، حوار الأديان، التسامح مع الآخر، محاصرة التكفير..إلخ، كلها وقف منها خطاب الأقلية المتطرفة موقف الرفض. ومن حقه كجزء من الحق المدني العام، المكفول للجميع أن يقف هذا الموقف الرافض على مستوى الخيار الفردي، فلا أحد يجبره على أن يوافق على كل هذا. لكن وهنا تتمايز الحقوق ليس من حقه أن يلزم الجميع برفض ما يرفضه. فخياره في الرفض، يجب ألا يلغي خيار الآخرين في القبول. من حق أي أحد، أن يعتزل كل شيء، وأن يرفض كل شيء، وأن يأخذ قربة ماء ولَوحاً من التمر اليابس، ويذهب إلى ( أدغال ) الربع الخالي؛ ليمارس حياة الزاهدين. لكن، ليس من حقه أن يطالب الجميع بالرحيل معه؛ بزعم أن هذا من واجبات الدين. لقد أصبح من الواضح أن هناك أزمة مزمنة، يعاني منها المجتمع مع هذه الأقلية المتطرفة التي أصبحت كابوسا مزعجا للجميع في كل حراك مجتمعي. فلا هي قادرة على التعايش مع السياق العام للمجتمع الذي يريد أن يعيش عصره؛ دونما عُقد، ولا المجتمع قادرة على أن يتجمد على رؤاها الضيقة المتطرفة. إذن، ما الحل لهذا التعارض الدائم بين المجتمع وبين هؤلاء الذين لا تتجاوز نسبتهم الواحد بالمائة من هذا المجتمع ؟ في تقديري ولا أقول ذلك مازحا أن الحل لا بد أن يتسم بمنح هؤلاء إمكانية أن يعيشوا (تطرفهم) كما يريدون. فهذا من أبسط حقوقهم، التي نؤمن بها من منطق الخيار الليبرالي. لكن، وبما أنهم يرون أن عدم خضوع المجتمع لهم، أمر مقلق لهم، من حيث كون تطرفهم لا يكتمل إلا بأن يغيب الحراك المدني المعاصر عن مجال رؤيتهم، فلا حل لهم إلا بالرحيل إلى مغارات تورا بورا. وهذا الخيار يأتي من كونهم (أقلية) لا تتعدى الواحد بالمائة، يسهل عليها الرحيل، في مقابل صوبة الرحيل على أكثر من تسعة وتسعين بالمائة منا. ولا أقصد بهذا أن يقيموا هناك معسكرات إرهابية، بل أن يقيموا فقط مدينتهم الفاضلة، حيث لا تعليم بنات ولا فضائيات ولا جرائد ولا إنترنت ولا كاميرا جوال...إلخ، إنها عودة إلى الزمن الجميل، الزمن الحلم. ولا شك أنهم سيسعدون هناك، وربما تشرفوا بلقاء أمير المؤمنين: الملا عمر؛ فيمنحهم بركاته بالسماح لهم بتقبيل يده الكريمة. وربما استجاب الله لتوسلاتهم في الخفاء؛ فظفروا بنظرة إلى جبين الشيخ المجاهد؛ وحينئذ لا تسل عن الفرح والسرور والحبور الذي سيفيض على الجوانح، ويظهر على القسمات؛ رغم وعثاء السفر وكآبة المنظر. هذا هو الحل الذي سيسعدهم ويسعدنا، ويجعلهم يعيشون حياتهم كما يريدون ونعيش حياتنا كما نريد. ولا أظن إلا أن هذا اقتراح مشروع، يستحق النظر من قِبل أحبائنا المتطرفين الذين يرون أن حياتنا غارقة مستنقع الحضارة المعاصرة، التي تدمّر في نظرهم الأخلاق والدين!