خبراء يتوقعون أن تزول نصف ال 1400 صحيفة أميركية كبرى خلال عقد واحد من الزمن يتفاخر الأميركيون بأن أحد رؤسائهم، رئيسهم الثالث في الحقيقة، توماس جيفرسون، قال ذات مرة "لو أنني خيرت بين أن تكون لنا حكومة من دون صحف أو صحف من دون حكومة، فإنني لن أتردد للحظة في اختيار الخيار الثاني." كان ذلك في العام 1787، أما الآن وبعد كثر من 200 سنة على هذه المقولة التاريخية المأثورة، فإن الصحف الأميركية تمر بأوقات حرجة جدا، بل هي باتت مهددة بالانقراض، كما يجرؤ بعض المحللين البعيدي النظر على القول من دون تردد. الأسباب كثيرة لذلك ومتشعبة، ولكن أهمها يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: المال. غير أن النتائج التي لم تُستشعر بعد بكليتها ستكون بعيدة المدى، ويحذر البعض من أن المشكلة الحالية التي تحاصر الصحف الأميركي لن تقتصر على الإضرار بصناعة الصحافة نفسها، بل إنها ستضر بالنظام الديمقراطي لأميركا نفسه الذي عمل جيفرسون جاهدا لبنائه وكان يحلم بأن يحافظ عليه بصحافة حرة. ففي أسوأ ربع سنة على الإطلاق في تاريخ الصحافة الأميركية، انخفضت مداخيل الإعلانات في الصحف والمجلات الأميركية في الربع الأول من العام الحالي 2009 بنسبة غير مسبوقة بلغت 28.3 بالمئة. وانخفضت مع الإعلانات مبيعات الصحف والمجلات الأميركية بنسبة مماثلة، أو أعلى قليلا، بلغت 29.7 بالمئة في الفترة نفسها. وكان الانخفاض الأسوأ في ميدان الإعلانات في الإعلانات الأكثر ربحية للمطبوعات الصحفية الأميركية، أي الإعلانات المبوبة التي انخفضت بنسبة 42.3 بالمئة، وصولا إلى 1.5 مليار دولار فقط في الربع الأول من هذا العام. ورغم أن مؤسسات متخصصة عديدة، لا سيما "رابطة الصحف الأميركية" التي تقوم برصد مبيعات الصحف والمجلات الأميركية منذ العام 1950، تشير إلى أن هذه المبيعات بدأت في الانخفاض في أبريل من العام 2006، أي قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية الأميركية بحوالي سنتين، فإن الانخفاض السابق الذكر في إعلانات ومبيعات الصحف والمجلات الأميركية في الربع الأول من العام "ليست له سابقة أبدا في تاريخ الصحافة الأميركية" كما تقول رابطة الصحف الأميركية. واللافت في الأمر بصورة تثير الذعر للعاملين في هذه الصناعة الأميركية الكبرى وغيرهم من خارجها هو أن المبلغ المالي الذي مثله الانخفاض في مبيعات الصحف الأميركية في هذه الفترة الذي بلغ 2.6 مليار دولار يمثل حوالي ثلث مبلغ انخفاض المبيعات في الصحف الأميركية في كامل السنة الماضية 2008، الذي بلغ 7.5 مليارات دولار، وهو ما يدل بصورة واضحة على أن الانخفاض يتواتر بصورة متسارعة ومتزايدة بصورة تثير الذعر. وكذلك فقد كان انخفاض مبيعات الإعلانات في الصحف الأميركية كارثيا هو الآخر، إذ أن دخل الصحف والمجلات الأميركية من الإعلان لم يزد عن 37 مليار دولار في العام 2008 كله، وهو ما مثل انخفاضا بنسبة أكثر من 16 بالمئة عن مبيعات إعلانات العام 2007. ويتوقع المحللون أنه ما لم "تحصل هناك معجزة" فإن صناعة الصحافة الأميركية لا شك متجهة، بناء على نتائج الربع الأول من العام، إلى تحقيق أقل من 30 مليار دولار على شكل مبيعات للسنة كلها، وهو ما سيكون أقل عن مبيعاتها السنوية منذ العام 1987. وما يثير قلق المحللين والعاملين في هذه الصناعة أن مبيعات الإعلانات في الصحافة الأميركية بلغت ما مجموعه 49.5 مليار دولار في العام 2005 فقط، أي قبل أربع سنوات لا أكثر، وهو ما يعني أنه إذا انخفض هذا الرقم إلى أقل من 30 مليار دولار، فإن ذلك سيمثل انخفاضا هائلا يبلغ 40 بالمئة خلال أربعة أعوام فقط. وتظهر الأرقام التالية أن الأزمة الاقتصادية كان لها نصيب الأسد من أزمة الصحف الأميركية في الفترة المذكورة. فقد انخفضت إعلانات الوظائف المبوبة بنسبة 67 بالمئة، وإعلانات صناعة العقارات بنسبة 45 بالمائة والسيارات بنسبة 43 بالمئة والإعلانات القومية بنسبة 25 بالمئة وإعلانات محلات المفرق بنسبة 23 بالمئة، فيما انخفضت بقية الإعلانات المبوبة بنسبة 17 بالمئة. وقد بدأت هذه الوقائع المالية تفرض نفسها بثقل على صناعة الصحافة الأميركية في الآونة الأخيرة، إذ بدأت أسماء عريقة في عالم الصحافة الأميركية تتقلص أو حتى تجد نفسها معرضة لللإفلاس وربما للانقراض بصورة تامة. وكانت آخر ضحايا هذه الأزمة صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل التي أعلنت مؤخرا عن أنها تهدف إلى إلغاء عدد كبير من الوظائف لديها لتلبية أهداف تخفيض في الميزانية تستهدف الصحيفة تحقيقها. لكن الصحيفة أضافت أنها إن لم تستطع تحقيق هذه الأهداف فإنها "ستضطر إما إلى عرض نفسها للبيع أو أن تغلق أبوابها بالكامل." يذكر أن هذه الصحيفة، التي تأسست في العام 1865، أي بعد فترة قصيرة من بدء فترة ما يسمى في تاريخ الولاياتالمتحدة "اندفاعة الذهب إلى كارليفورنيا"، قد سجلت خسائر بلغت 50 مليون دولار في العام 2008، وهي تبدو حتى أسوأ في العام 2009. وفي الفترة نفسها سجلت مبيعاتها انخفاضا بلغ 17 بالمئة خلال الأشهر الستة الأخيرة من العام 2008، فيما كانت مبيعات إعلاناتها في الفترة ذاتها أسوأ بكثير. شركة هيرست الإعلامية، التي تملك الكرونيكل وعدة صحف أخرى، اقترحت الشهر الماضي اجراءات مماثلة لصحيفة أخرى من ممتلكاتها، وهي صحيفة "سياتل بوست إنتلجنسر." ولكن حظ صحيفة روكي ماونتن نيوز التي تصدر في مدينة دنفر بولاية كولورادو كان حتى أسوأ. فقد أعلنت الصحيفة في أيام الخميس قبل بضعة أشهر أن عددها في ذلك اليوم "كان العدد الأخير." صحيفة توسون التي تصدر في مدينة توسون بولاية أريزونا تواجه المصير نفسه. ولكن الأمر لم يتوقف عند الصحف الأميركية المتوسطة الحجم أو الصغيرة، بل تعداها إلى الأسماء الكبيرة التي باتت معروفة حتى في غالبية دول العالم بسبب حضورها التاريخي المتواصل وإبداعاتها الصحفية وأعمال السبق الصحفي المتكررة الباهرة التي قدمتها على مدى السنين الطويلة الماضية والتي ساعدت في إطاحة حكومات أجنبية، بل وبرؤساء أميركيين أيضا. فصحيفة نيويورك تايمز العملاقة تكافح من أجل دفع ديون عليها تصل قيمتها إلى 400 مليون دولار، وذلك وسط انخفاض احتياطيها من الكتلة النقدية وتواصل انخفاض مبيعاتها وإعلاناتها. وفي العام 2008 اضطرت الصحيفة إلى رهن مبناها الجديد اللامع الذي بنته في العام 2007 فقط لزيادة احتياطيها من المال لمواصلة أعمالها من دون تخفيضات كبيرة في عملياتها. شركة "تريبيون" التي تمتلك عدة صحف أميركية كبيرة ومنها شيكاغو تريبيون ولوس أنجلوس تايمز وبلتيمور صن وغيرها العديد من الصحف الأميركية الكبرى، تقدمت في ديسمبر الماضي بطلب ما يسمى بحصولها على امتيازات الفصل 11 من قانون الضرائب والمال الأميركي، وهو ما يعني الإفلاس المنظم. ورغم أن صحفها لا زالت تعمل حتى اللحظة، فإن مجرد تقدم الشركة بطلب تنظيم إفلاسها لا بد سيترك آثاره السلبية على مجمل عمليات هذه الصحف، ومنها المبيعات والإعلانات أيضا. وكذلك هنالك ثلاث شركات صحف أميركية كبرى أخرى تقدمت بطلبات لتنظيم إفلاسها في الآونة الأخيرة، وهي "ستار تريبيون القابضة" (التي تمتلك صحيفة منيابوليس ستار تريبيون) وشركة "جورنال ريجستر" (التي تمتلك صحيفة نيوهيفن ريجستر وغيرها من الصحف في منطقة الشمال الشرقي للولايات المتحدة) وشركة "فيلادلفيا نيوزبيبرز" التي (تمتلك الصحفيتين الرئيسيتين في ولاية بنسلفانيا وهما الإنكوايرر والديلي نيوز). شركة غانيت السلسلية الصحفية، وهي من أكبر المؤسسات الصحفية الأميركية، أعلنت هي الأخرى مؤخرا عن تسريح أعداد كبيرة من موظفيها لفترة معينة من العام من أجل خفض النفقات، وهذه هي المرة الثانية خلال العام التي تلجأ فيها هذه المؤسسة العملاقة إلى هذا الإجراء لخفض نفقاتها ومساعدتها على البقاء. وبالاطلاع على الأرقام المالية لصحف أميركية منفردة، فإن المشهد يبدو مخيفا حقا. هامش ربحية صحيفة نيويورك تايمز، التي هي الأشهر والأعرق وقد تكون الأكبر من بين الصحف الأميركية، انخفض بنسبة 50 بالمئة خلال السنوات الخمس الماضي، وهامش ربحية صحيفة الواشنطن بوست، وهي التي لا تقل شهرة وضخامة بكثير عن التايمزن انخفض هامش ربحيتها بنسبة 25 بالمائة في الفترة نفسها. ولكن حظ هاتين الصحيفتين الكبيرتين كان أفضل بالتأكيد من حظ الصحيفتين الكبيرتين شيكاغو تريبيون ولوس أنجلوس تايمز اللتين تقدمت الشركة المالكة لهما بطلب للإفلاس المنظم في ديسمبر الماضي. وقد ترجمت هذه الخسائر في بعض الصحف، بل في الصناعة كلها، بفقدان فوري في الوظائف في هذا القطاع. ففي العام 2008 فقط، فقد قطاع الصحافة الأميركي أكثر من 15,554 وظيفة، كما أن 25 صحيفة أغلقت أبوابها بالكامل في ذلك العام وحده، بما فيها صحيفتان كبيرتان هما نيويورك صن وبوسطن ناو. وحسب آخر الإحصاءات، فإن أكثر من 10,000 وظيفة قد فقدت وأغلقت أكثر من 30 صحيفة أبوابها بالكامل في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي 2009. ويقدر جان شيفر، المدير التنفيذي للصحافة التفاعلية أن 700 من عدد الصحف الأميركية الإجمالي وهو 1400 صحيفة "ستختفي بنهاية العقد القادم." ما هي أسباب ذلك؟ هل هي الأزمة الاقتصادية أم أن الأمر أوسع من ذلك بكثير؟ في حين يقول كثيرون إن الأزمة الاقتصادية الأخيرة لا بد كان لها تأثيرها الذي لا يمكن إنكاره على الصحف الأميركية، فإن المحللين يقولون إن الأمر يتعدى ذلك. ويقول هؤلاء إنه في حين أنه يمكن تلخيص أزمة الصحف الأميركية اليوم بكلمة واحدة هي "المال" فإنه يمكن اختزال مشكلة المال نفسها في كلمة واحدة أيضا هي "الإنترنت." ويقول هؤلاء المحللون إن الصحف الأميركية دأبت على الحصول على أرباحها من مصدرين: قرائها الذين يدفعون لها إما بالاشتراك الشهري أو السنوي أو الذين يشترونها من أكشاك بيع الصحف، ومن المعلنين لديها. ويقول هؤلاء إنه في الوقت الذي بدأت فيه الصحف الأميركية تنشر كل محتواها مجانا على الإنترنت لمنافسة وسائل الإعلام الأخرى التي توفر هذه المعلومات بسرعة لقرائها خشية أن تفقد هذه الصحف قراءها، فإن مصدر دخلها الأول بدأ يجف تدريجيا، لأن القراء لم يعودوا مستعدين لدفع ثمن مقال يقرأونه في الصحيفة إذا كانوا سيحصلون عليه مجانا وبسرعة أكبر في منازلهم أو مكاتبهم على الإنترنت. ويقول هؤلاء إن الصحف حاولت أن تعوض عن خسارتها في ميدان القراء عن طريق زيادة مدخولها من الإعلان التجاري، خصوصا في الوقت الذي انفجرت فيه الإعلانات على الإنترنت في بداية توفر الشبكة بسرعات كبيرة للجميع تقريبا. ولكن هؤلاء المحللين يقولون إن صعود مواقع إعلانية متخصصة على الإنترنت، مثل كريغ ليست CRAIGLIST.COM أدى هو الآخر إلى خفض مدخول الصحافة من الإعلان التجاري، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي خفضت لا شك من عدد الشركات المستعدة، أو القادرة، على شراء الإعلانات الكبيرة التي تكلف ملايين الدولارات للشركات أسبوعيا. ولخص المحلل المختص في شؤون الصحافة في صحيفة نيويورك تايمز جيمس سورويكي الأمر بقوله: "خذ أولا القراء والمعلنين الذين كانوا يهجرون الصحافة المكتوبة أصلا ويتجهون إلى الإنترنت، وأضف إلى ذلك ركودا اقتصاديا سحيقا، فتحصل على مشكلة كبيرة جدا. وهذا ما نعاني منه بالضبط حاليا في هذه الصناعة." ويقول المحلل إن مشكلة الصحافة الأميركية اليوم لا تتمثل في انحسار عدد القراء، فعددهم في تزايد. ولكن المشكلة تكمن "في إيجاد طريقة لتحويل عدد القراء الزائد إلى دخل زائد." وإلى أن يتمكن الخبراء من مساعدة الصحف الأميركية على العثور على الحل السحري الذي يترجم أعداد القراء المتزايدة إلى دولارات متزايدة، فإن مشكلة الصحافة الأميركية اليوم تثير الكثير من القلق لدى الكثير من الأميركيين الذين لا زالوا يؤمنون بقول جيفرسون بأن الصحافة هي أهم من الحكومة في النظام الديمقراطي. ويقول الدكتور نيل هنري، عميد كلية الصحافة بجامعة كاليفورنيا – بيركلي، إن تواصل خفض النفقات لدى الصحف الأميركية والتهديد بإغلاق أعداد كبيرة منها "يهدد بخفض قيمة الصحافة في أميركا، بل وبخفض قيمة الديمقراطية نفسها في بلدنا." وقال إن "جزءا حيويا ومهما من الديمقراطية يتبخر أمام أعيننا سواء أدرك الجمهور هذا أم لا." الحكومة الأميركية، ممثلة بكونغرس الولاياتالمتحدة، شعرت هي الأخرى بخطورة المشاكل التي تعاني منها الصحف الأميركية، وهي تحاول أن تمد يد المساعدة لها كما مدتها لقطاع السيارات والعقارات وغيرهما. ففي مارس الماضي، طرح السناتور الديمقراطي بنجامين كاردن مشروع "قانون تحفيز الصحافة" الذي من شأنه أن يسمح للصحف الأميركية بالعمل كمؤسسات غير ربحية لإعفائها من الضرائب. وفي مقابل ذلك يتوقع السناتور الأميركي في مشروع قانونه أن تواصل من تريد من الصحف الأميركية العمل لأغراض تعليمية وتثقيفية من دون دفع ضرائب، تماما كما تعمل شبكات الإذاعة العامة. وقال كاردن في طرحه مشروع قانونه "إننا نفقد صناعة الصحافة لدينا. الاقتصاد تسبب في مشكلة فورية مباشرة، ولكن الحقيقة أيضا أن نموذج العمل الذي تعتمده الصحافة القائم على التوزيع والإعلان قد انهار، وهذا يمثل كارثة حقيقية عبر البلاد ولنظامنا الديمقراطي نفسه."