يستقبلك في مطاعم ونواد مرموقة في الولاياتالمتحدة مقتطفات من صحف قديمة وحديثة تستعرض إما مديحاً للمكان المضيف أو لقطة تذكارية لحدث هز المجتمع الأميركي مثل اغتيال جون كينيدي أو الوصول الى القمر. غير أن الأزمة الراهنة التي تعترض الصحافة الورقية في مختلف الولايات الأميركية، تطرح شكوكاً وتعزز المخاوف حول مستقبل هذه الصناعة، مع الأنباء عن إقفال وإفلاس مؤسسات إعلامية عريقة أو التحول الى النمط الإلكتروني في أكثر من مئة مطبوعة خلال الأشهر القليلة الماضية. أفلام «زودياك» أو «رجال الرئيس» التي تمحورت مواضيعها حول فضائح سياسية أو جرائم تعقبتها الصحافة المكتوبة، قد تستبدل مستقبلاً بمشاهد قراءة مواقع الإنترنت الإخبارية بدلاً من الصحف الورقية وفي ظل الأزمة التي تهدد مستقبل الصحافة الورقية كمشروع تجاري هادف للربح ومع اتساع ظاهرة الإعلام الرقمي أو الإلكتروني حيث يعتمد كثيرون من الأميركيين خصوصاً من فئة الشباب على شبكة الإنترنت في متابعة الأخبار اليومية ومعرفة أحدث المعلومات. وانفجرت هذه الأزمة في الخريف الماضي مع اعلان صحيفة كريستان ساينس مونيتور اليومية العريقة التحول الى أسبوعية، قبل أن تلحق بها حوالى مئة مطبوعة بعضها محلي (محصور في ولاية معينة) وبعضها الآخر يوزع وطنياً. وجاءت الأزمة الاقتصادية لتضاعف خسائر الصحف الورقية إلى جانب المنافسة الشرسة التي تواجهها من شبكة الإنترنت. وشهد العام الماضي ومنذ انفجار الأزمة الاقتصادية في أيلول (سبتمبر)، وتيرة أنباء سيئة حول اقفال صحف وإفلاس أخرى أو التحول الى الإنترنت. وجاء اعلان صحيفتي «نيويورك صن» و«ذا روكي ماونتن نيوز» الإغلاق أول عام 2009 لتصبحا أول صحيفتين كبيرتان تنحيان أمام الأزمة، بسبب انخفاض التوزيع وتراجع أرباح الإعلانات. كما لوحت شركة «هرست» للمطبوعات أخيراً بإمكانية إغلاق صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» التي تأسست عام 1864 وترضخ اليوم لنزيف الخسائر المتتالية ما سيحتم اما خفض النفقات أو بيع الصحيفة. واضطرت الأزمة صحفاً عريقة مثل «نيويورك تايمز» الى بيع 12 طابقًا من مقرها الرئيسي في نيويورك الذي يتكون من 52 طابقًا لقاء 225 مليون دولار في سبيل الحصول على سيولة مالية رفعت أسهم الصحيفة في البورصة. كما أعلنت مجموعة «ماكلاتشي» الصحافية وهي ثالث أكبر مجموعة صحافية أميركية إلغاء 1600 وظيفة أي الاستغناء عن 15في المئة من موظفيها بسبب نقص أرباح الإعلانات، واتخذت «واشنطن بوست» اجراءت مماثلة بخفض عدد الوظائف والدفع ببعض موظفيها الى التقاعد المبكر. وتشير التقديرات الى أن ما يعادل 16 ألف وظيفة في مواقع غرف الأخبار تم إلغاؤها العام الماضي كما تم تسريح حوالى ألفي شخص منذ مطلع العام الحالي وحتى الآن. وتطرح الأرقام أسئلة حول مستقبل الصحافة الورقية واحتمال «موتها» أمام ثورة تكنولوجيا المعلومات وصحافة الإنترنت والمدونات الإلكترونية (بلوغرز). ونشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أخيراً قائمة بعشر صحف يومية كبرى يتوقع أن توقف طبعتها الورقية أو تغلق نهائيًّا في الفترة المقبلة، وذلك اعتمادًا على القوة المالية للمؤسسات الإعلامية الناشرة لهذه الصحف وحجم المنافسة المباشرة لهذه الصحف في السوق وحجم الخسائر. وتضم القائمة صحف فيلادلفيا «ديلي نيوز» و «مينيابوليس ستار تريبيون» و «ميامي هيرالد» و «ديترويت نيوز» و «بوسطن غلوب» و «سان فرانسيسكو كرونيكل» و «نيويورك ديلي نيوز» و «فورت وورث ستار تلغرام» و «كليفلاند بلين ديلر». ولتفادي هكذا انهيار تحول بعض الصحف الى الطبعات الإلكترونية موقفة أو معدلة في وتيرة الصدور على الورق. اذ أعلنت كبريات الصحف في ولاية ميشيغان وهي صحيفتا «ديترويت فري برس» و «ديترويت نيوز» عن الحد من وتيرة الصدور من سبعة الى أربعة أيام في الأسبوع، وتحويل الموارد الى الطبعة الإلكترونية في ظل الأعباء المادية والأزمة التي تواجه الصحافة الأميركية المكتوبة. وتحل «ديترويت فري برس» في المرتبة العشرين بين الصحف الأميركية، وكانت مبيعاتها انخفضت بنسبة 15 في المئة العام الماضي في مقابل 22 في المئة في صحيفة «ديترويت نيوز». وستعني الإجراءات الجديدة طرد حوالى 2000 موظف بحسب تقدير الناشرين. وبذلك تلحق هاتان الصحيفتان بصحف أخرى مثل «شيكاغو صن تايمز» أو «شيكاغو تريبيون» اللتين أعلنتا افلاسها أول العام. ويفسر باتريك ماكجفرن، رئيس مجموعة البيانات العالمية التي تصدر مجلتين الكترونيتين، هذا التحول من الصحافة الورقية الى الإنترنت بإشارته الى أن «الطبعات الورقية أصبحت أخبار الأمس. إذا كانت المادة خبرية فإن الجمهور يريد سماعها بأسرع ما يمكن» وهذا عامل تفوّق للصحافة الإلكترونية بسبب سهولة التعديل في محتواها على الإنترنت والكلفة القليلة التي يتطلبها ذلك. وقد رصد مركز «بيو» للأبحاث في تقرير له هذا الواقع المرير للصحافة الأميركية الورقية راسماً صورة متشائمة لهذا العام. وأوضح أن ما يناهز 39 في المئة من المستطلعين يطالعون صحيفة يومية سواء كانت ورقية أو إلكترونية ، وبانخفاض بنسبة أربعة في المئة عن العام 2006. الا أن التقرير أشار الى انخفاض نسبة قراء النسخة الورقية من الصحيفة من 34 إلى 25 في المئة خلال هذين العامين. وانخفضت قراءة الصحف الورقية في شكل عام، وقابلها ارتفاع في متابعة الصحف الإلكترونية (من 9 في المئة عام 2006 إلى 14في المئة عام 2008) حتى بات قراء الصحف الإلكترونية يمثلون أكثر من ثلث قراء الصحف بعد أن كانوا أقل من الربع عام 2006، الأمر الذي يفسره تقرير «بيو» بأنه يعكس التحول الذي تحدثه الأجيال الشابة في قراءة الصحف. وأضاف التقرير أن نسبة قراء الصحف الورقية والإلكترونية في أوساط مواليد عام 1977 وما بعد ذلك تصل الى 16 في المئة مقابل 14 في المئة يقرأون النسخة الإلكترونية. وتعكس هذه النسب تراجعاً في قراءة الصحافة الورقية بعد أن كانت أكثر من ضعف قراء الصحف الإلكترزنية قبل ثلاث سنوات. وجاءت مواقع «ياهو» و «إم. إس. إن» و «سي. إن. إن» في مقدمة المواقع المتصفحة بنسب 28 و19 و17 في المئة ، وجاء موقع «غوغل» في المركز الرابع بنسبة 11 في المئة، وتليها مواقع الصحف الورقية على الإنترنت وفي مقدمها الصحف المحلية بنسبة 7 في المئة ثم «نيويورك تايمز» بنسبة 4 في المئة و«وول ستريت جورنال» و«يو إس إيه توداي» و«واشنطن بوست» بنسبة 2 في المئة لكل منها. أما في أوساط الجيل الأكبر أو مواليد فترة الستينات فإن إحصاءات عام 2008 تظهر أن 21 في المئة يتابعون صحيفة ورقية فقط أو ورقية وإلكترونية مقابل 18 في المئة للصحف الإلكترونية، بعدما كانت النسب30 في المئة للصحف المطبوعة و13 في المئة للنسخة الإلكترونية عام 2006. وتسجل هذه النسب ارتفاعاً في الجيل الأكبر بالسن والتي طالما كانت القاعدة الأساسية لتسويق الصحافة المكتوبة. وتتجه صحف كثيرة الى اطلاق تقليد المدونات على مواقعها الإلكترونية أو «بلوغرز» لتوفير خدمة اخبارية أسرع والتواصل في شكل أفضل مع شريحة الشباب. وسيكون مستقبل هذه الصحافة رهناً بنجاحها في مواكبة الأخبار السريعة وبالتالي جذب الإعلانات الإلكترونية أو من خلال تسويق الطبعة الورقية في شكل يتعدى النمط الإخباري السريع ويقدم للقارئ، خصوصاً الشباب الأميركي، مادة استثنائية وغير متوافرة الكترونياً مثل التحقيقات المطولة التي برع فيها صحافيون أميركيون مثل بوب وودوارد أو كارل برنيستين أو سيمور هيرش.