ليس من الوارد أن أكون حانقا أو كارها أو مستفزا أو عامدا الى التجريح والاساءة والتشهير، فمهما بلغت الدهشة مداها، أو حتى تملك الغيظ من جانحة أو سانحة، يظل المرء مطالبا بالحكمة والعقل، فيكتفي بطرح الأسئلة، أو أن يضع الموقف المحدد في سياق التوجه العام فربما كشف عن تفاصيل جديدة للظاهرة.. يقولون دائما : " هذا الشبل من ذاك الأسد " أو " العصا من العصية " ويقولون في الأمثال العامية " ابن الوز عوام " والقصد معروف، لكن أمامي حالة مخالفة تمثلت في شخص محدد، لا علاقة له بأسده أو عصيته أو أوزه، نبهتني اليه حالة أخرى، فرسانها من الذين عاشوا في المملكة أو تعلموا فيها أو كونوا أنفسهم ماديا وأدبيا بما منحتهم المملكة من وفرة المال والفرص، ثم عادوا ليغيروا حياتهم وواقعهم ، ومع هذا التغيير يخلعون جلودهم ويبدلون قناعاتهم ويتفرغون للهجوم بمناسبة ودون مناسبة على المملكة، كأنما يشعرون أن ما وصلوا اليه كان بفضل الله وبكرم المملكة، ويرون أن هذه تهمة تسلب منهم امتيازهم الشخصي أو موهبتهم الفردية فينبرون للنيل من اليد التي امتدت لهم.. هذه حال بعض قليل من العائدين، ربما كان دافعهم نفسيا محضا، وربما لأن ظرفا معينا أنهى فرصة ما كانوا يتمتعون به رغما عنهم فتحولوا الى تلك المجاهرة بالعداء وهم أول العارفين المدركين أنهم يتخلون عن الضمير وعدالة الفكر وأخلاقيات العرفان وتقدير الجميل، لأننا في معظم هذه الحالات نجد أن السلوك الفردي مناقض ومعاكس لكل الفرضيات، بل والقوانين العلمية أيضا. ربما كنت أتحدث الآن وفي رأسي نموذج أراد لنفسه أن يمثل غلو الظاهرة هو أحد مقدمي البرامج في قناة فضائية خاصة. الرجل سليل أسرة فنية كان لها دورها المميز والمشهود له، فهو ابن لفنان قام بدوره بشكل رائع وجميل على قدر موهبته الفنية، كمخرج أولا لم يسف في اختيار العمل الفني الذي حرص بشدة على أن يكون عملا هادفا كرسالة، وناضجا كتعبير فني، هو بذلك أصبح مرحلة في تاريخ الفن في مصر، وكممثل جاهد كثيرا في معالجة عيوبه – خاصة في الكلام – سعيا الى الرضا، ويقدر له الناس تدقيقه في اختيار أدواره أيضا.. هذا هو الأب رحمه الله، أما الأم فهي فنانة رائعة، لا يستطيع المرء أن يمايز بين سلوكها في الحياة وبين أدائها في الفن، في الحالين تبدو مقنعة فلا فرق بين ما هو فن وما هو حياة حقيقية، تحبها شئت أم لم تشأ .. فنانة كبيرة بكل ما تحمله كلمة فنان من دلالات.. في هذه الأسرة الفنية – المحافظة على القيم الانسانية والفنية، والواعية بالدور والمهمة التوعوية – نشأ الابن، واستفاد اجتماعيا لا ثقافيا من هذه الوضعية الى أبعد الحدود، فاكراما لوالده أطل علينا وجها اعلاميا عبر الفضائية العربية الوحيدة آنذاك ال mbc ، مع أنه لا يملك مقومات هذا العمل، شكلا ومضمونا: الافتقار الى الذكاء اللماح الذي يمكن من حوار ثري، انتفاء أي قدر من الثقافة على نحو ما تعكس ضحالة العرض أو الكلام أو تناول أي موضوع، وشكلا له طريقة خاصة في المضمضة بالكلام في الفم قبل النطق، والتهتهة التي تحول بين أي انسان والعمل في مجال عماده سلامة النطق وفصاحة الكلام وبلاغة الأداء، لكن هذا لايهم متى ما عوضه ثراء العوامل الأخرى. لم يأت اكرام الفنان في تمرير نجله من بلده بل جاء من المملكة ومن ال mbc، وفي الظروف العادية لم يكن أحد يتوقع أن يجحد عطاء مستحيلا بهذا الحجم .. عملت تلك القناة الفضائية السعودية على " تكبيره " وأعطته كل ما لا يستحق من فرص ومناصب الى أن اختفى منها فجأة ولا أحد يعرف السبب. في القناة الخاصة التي يعمل بها الآن لا يكف الرجل عن التفكير ليلا ونهارا عن أي شيء له علاقة بالسعودية ليثير منه " قضية رأي عام " أظن لو سعل سائح سعودي من البرد مرة تحول الأمر الى " الازعاج الذي يسببه السعوديون في مصر للنيام " .. منذ أيام قليلة أعد متفجراته لقضية جديدة : طلبة سعوديون يعتدون بالضرب على ثلاثة من الأساتذة في احدى الأكاديميات، ومقدمات طويلة وصراخ .. أين تقاليد العلم التي أهدرها السعوديون وأخلاقياته، وهذه بادرة لا ينبغي السكوت عليها، لازم نتحرك ولازم نعمل حاجة .. الخ ذلك، الى أن جاء دور مداخلة أحد المسؤولين من الأكاديمية التي وقع بها الحادث . قال الرجل بشكل عاقل: أولا هذه حادثة تقع في أي مكان، للتعليم أو لغير التعليم، وتتولى الجهة مسؤولية التحقيق والعقاب أو الجزاء، فما الداعي الى تحويلها الى قضية رأي عام في جهاز اعلامي؟ ثانيا الذين يتابعونك أنت شخصيا يعرفون أنك دائما ما تتصيد أي شيء ضد السعودية مع أن عملك يقضي أن تكون محايدا، أليست هذه خيانة للعمل أو استغلالا شخصيا له؟ ثالثا أنت ضحية خطأ مطبعي، أو أنك تعجلت القراءة، فالطلبة الذين قاموا بهذه الواقعة " سودانيون " وليسوا سعوديين، ومع ذلك فمعظم الطلبة لدينا عرب ولا نفرق بين جنسية وأخرى، فلماذا غيرت أنت جنسيتهم ؟.. ورد الأخ مقدم البرنامج وهو يواري ارتباكه، طالما أنهم ليسوا سعوديين اذن سيداتي وسادتي ننتقل الى الفقرة التالية ! طبعا مشكلة هذا الأخ ليست ظاهرة عامة وإن كان لها نماذجها، هي مشكلة خاصة به وبأسرته التي يعمل على محو تراثها بكل شكل، فلدي من المصريين صديق دائما ما يقول: لو منحت كل دمي وأيام حياتي لواحد من السعوديين لا أعرفه، لما وفيت دينا للسعودية، هذا البلد الكريم، ولا يقف عند القول، بل يسبقه بالفعل. هذا الصديق وحده يكفي وزيادة...