التأديب والعنف.. مصطلحان يصعب رسم حد فاصل بينهما، لذا تشابكت لدى البعض المفاهيم حتى تمخضت جرائم ضد الأطفال بحجة" التأديب" قبل أن يعي من قاموا بها أنها تجاوزت ذلك إلى العنف الذي "شوه جسد الطفولة"، ووصل بعضهاإلى حد القتل. " الرياض " تفتح الملف الشائك لإشكالية العنف بحجة التأديب وتطرح من خلاله أهمية وضع قانون يحدد المسموح والممنوع في تأديب الأبناء، حيث يشير برنامج الأمان الأسري الوطني أن ظاهرة العنف ضد الأطفال تضاعفت 10 مرات عما كانت عليه عام 1999 م! رؤى متعددة يطرحها عدد من المختصين في العلوم الأمنية والقانون وعلم الجريمة وعلم الاجتماع حول تحديد إشكالية العنف بحجة التأديب وأسبابه ومخاطره، وإمكانية وضع قانون يفرق بينهما. حدود التعريف * إشكالية التعريف ساهمت في تكرار ظهور حالات التعنيف بغية التأديب .. فكيف نحدد هذا المفهوم؟ حسب إجابة الدكتور جبرين الجبرين الأستاذ المشارك في كلية الآداب بجامعة الملك سعود فإن تعريف العنف الأسري يتأثر بالثقافة السائدة في أي مجتمع، كما يتأثر بالفهم الواضح للدين والقانون والعرف السائد، وكذلك التنشئة الاجتماعية، وقد استخدم البعض معيار القصد من الضرب فإذا كان يقصد به التأديب فيفترض أن لا يلحق الأذى والضرر بالمضروب، أما إذا توافرت النية والقصد في إلحاق الأذى والضرر بالمضروب فإنه يدخل تحت العنف، إلا أن هذا المعيار يصعب قياسه حيث اختلف المهتمون بالعنف الأسري في ضرورة وجود النية وكيفية تحديدها. وبالنظر إلى أنواع العنف الأسري يجد د. الجبرين أن العنف البدني والجنسي هي التي تعتبر عنفاً جنائياً من الممكن أن يعاقب عليه القانون في حين أن الأنواع الأخرى من العنف مثل العنف النفسي والعاطفي والحرمان وغيرها لا تدخل تحت المفهوم الجنائي إلا أنه لا ينبغي إغفالها لأنها ربما تقود إلى عنف من النوع الجنائي. إشكالية أم ظاهرة * العنف ضد الأطفال بحجة التأديب هل صار ظاهرة في مجتمعنا؟ .. كيف ننظر إلى أسبابها ومخاطرها؟ من وجهة نظر أستاذة الطفولة والتنمية الأستاذة تغريد بنت ناصر العبد الكريم طالبة الدراسات العليا في المملكة المتحدة أن تعنيف الأطفال بحجة التأديب ليس إشكالية بقدر ما هو ظاهرة أو سلوك عنيف يقوم به الآباء والأمهات والمربون بحجة الاهتمام بأسلوب التربية وتقويم سلوك الأبناء،في حين ينفي الدكتور عبد الحفيظ بن عبدالله المالكي مدير تحرير مجلة البحوث الأمنية الباحث في العلوم الأمنية أن يكون العنف ضد الأطفال ظاهرة لدينا، وإنما هناك حالات فردية متفرقة لا ينبغي تجاهلها، أما المستشار القانوني محمد بن عبد العزيز المحمود فقد شدد على وجوب عدم التهاون في مثل هذه القضايا خصوصا من قبل الجهات التي تستقبل البلاغ المبدئي كأجهزة الشرطة والحماية الاجتماعية، أو من قبل الجهات التي تلاحظ هذا العنف على الأطفال في المدارس. أنواع أخرى * ما الأشكال الملتبسة التي قد يأخذها التعنيف بحجة التأديب؟ ترى الباحثة تغريد أن من ذلك استغلال الأطفال بمهن وأعمال لا تتناسب والعمر الزمني لهم ، كما قد يلجأ الآباء إلى التعنيف بحجة إكساب الطفل تقاليد يجب المحافظة عليها، أو صقل شخصية الابن بصورة تجعله يكون ضحية لسلوكيات غالباً ما يكون أثرها السيئ اكبر بكثير من الايجابي، كما تأخذ أيضاً شكلاً أو قالباً تربوياً كالضرب في المدارس. كما يقول الدكتور يوسف بن أحمد الرميح أستاذ علم الإجرام ومكافحة الجريمة المشارك بجامعة القصيم ومستشار إمارة منطقة القصيم، استناداً على نتائج دراسة أجراها بنفسه أن عددا لا بأس به من أطفالنا يتعرضون للعنف من قبل الوالد وزوجة الأب خاصة، هذا العنف يأخذ عدة صور أكثرها شيوعاً الضرب على مختلف أنحاء الجسد، يليه العنف والضغط النفسي والتحقير وسجنه ويليه منع الطفل من حقوقه في الترفيه واللعب والتسلية. ويلفت المستشار المحمود النظر إلى التعنيف من باب الانتقام فالزوج المنفصل عن زوجته وبينهما أطفال ومشاكل حول حضانة، لا يمكن أن نقبل حجة هذا الأب عندما يضرب أبناءه بأنه يقصد تأديبهم، خصوصاً إذا ظهرت آثار ذلك العنف على الأبناء حسياً أو معنوياً ، ويطالب بإعادة النظر في حكم الحضانة وإسقاط حق ذلك الأب فيها أولاً، ومحاكمته على ذلك العنف ثانياً. ويشيد المحمود بدور الوزارة وتخصيصها للرقم الموحد ( 1919 ) لاستقبال البلاغات عن حالات إيذاء الأطفال ، وإن كنا لا نعلم الآلية المتبعة بعد استقبال هذا البلاغ خصوصاً وأن مسألة تعنيفهم ترتبط بمسائل أخرى كالحضانة والزيارة التي يختص القضاء في الفصل فيها. الإحصائيات مغيبة ! * أكدت دراسة نشرت مؤخراً عن وزارة الداخلية أن21% من الأطفال السعوديين يتعرضون للإيذاء بأنواعه .. وأكد برنامج الأمان الأسري الوطني أن ظاهرة العنف ضد الأطفال تضاعفت 10 مرات عما كانت عليه عام 1999 م .. هل هناك إحصائيات تحدد حجم مشكلة التعنيف بحجة التأديب في مجتمعنا؟ تؤكد الباحثة تغريد عدم وجود إحصاءات تشير إلى استخدام الآباء والأمهات للعنف ضد الأبناء بحجة التأديب في مجتمعنا، وان كانت هناك جهود غير متواصلة وشبه فردية، وتعتقد أن هذا يصعب قياسه في المجتمعات العربية وذلك لطبيعة هذه المجتمعات وخصوصية المنظومة الاجتماعية والأسرية. ويتفق معها د. الرميح، مشيراً إلى أن تعنيف الأطفال لا يعلن ولا يعلم أكثر من 10% منه بينما 90% منه يظل في الكتمان داخل المنازل، هذا نتاج إحدى الدراسات الغربية ، وأما في مجتمعاتنا فلا يعرف بالضبط كم نسبته. غطاء "النوايا الحسنة " * لماذا تضخمت إشكالية تعنيف الأطفال بحجة التأديب؟ وهل تشفع "النوايا الحسنة " في التعنيف .. بلا حدود؟ يرجع د. المالكي أسباب التضخم إلى اختلاط المفاهيم، واعتبار التعنيف نوعاً من أساليب التربية مع الجهل التام بالخط الفاصل بين ما يُعد من التأديب المشروع والإيذاء الممنوع، إلى جانب ضعف الوازع الديني لدى بعض أفراد الأسرة أو بعض المعلمين ومن في حكمهم، وكذلك تدني مستوى الوعي والجهل بأصول التربية السليمة لدى كثير من الأسر، يُضاف إلى ذلك الخلافات الأسرية والطلاق وحب الانتقام، والوقوع تحت تأثير المسكرات والمخدرات وما ينتج عنها من اضطراب في السلوك وعدم الوعي، ثم الأمراض النفسية لدى المعنِف، وتقصير مؤسسات التنشئة الاجتماعية في القيام بدورها في محاربة الإيذاء؛ وعدم قيامها بالتوعية اللازمة وتعزيز أساليب التربية السليمة. لذا ينفي د. المالكي إجازة مبرر" النوايا الحسنة " للأسرة أو من في حكمها لاستخدام أساليب عنيفة ضد الأطفال تأديباً وتهذيباً، فلكل شيء حدوده وضوابطه . ولا تعتقد الباحثة تغريد أن النوايا الحسنة تشفع للأهل والمربين، فمن خلال الدراسات النفسية للأطفال ورياض الأطفال وجد أن هناك الكثير منهم يستخدمون لفظ "النوايا الحسنة " لتضليل إسقاطاتهم الشخصية، فيجب الحذر من اعتبارها كمعيار لممارسة هذه السلوكيات. اقتراح قانون * هل يمكن أن نقترح قانوناً يحدد المسموح والممنوع في تأديب الأبناء؟ .. وما ملامح هذا القانون المقترح؟ يوافق الدكتور المالكي على أن سن الأنظمة والتشريعات اللازمة لحماية الأطفال أمر مطلوب بإلحاح، وإن وجدت بعض الضوابط المتفرقة التي تعالج هذه القضية في أنظمة وتعليمات مختلفة فإنها لا تكفي؛ ويتمنى د. الرميح وجود جهات حكومية أو أهلية أو خيرية فاعلة تتولى حماية الأطفال من قسوة بعض الآباء والأمهات ومن تصفية الحسابات بينهما، كذلك يجب حمايتهم من تعنيف بعض المعلمين أو استغلالهم لأمور لا تتفق مع الدين والأخلاق والشريعة كالاستغلال الجنسي أو تشغيلهم بأي عمل شاق يفوق مستوى قدراتهم الجسدية. لكن في المقابل يرى الدكتور الجبرين أن وضع مثل هذا القانون مهمة صعبة، فالتربية هي مسؤولية الوالدين والمعلمين لكن ما هي الحدود التي يجب التوقف عندها؟. ويضيف " هذه الجدلية الكبيرة ناقشها المجتمع الأمريكي فترة طويلة انتهت بالفشل في الوصول لأي اتفاق حول ما يمكن تصنيفه تربية وتأديب وما يمكن تصنيفه عنف وأصبحت منطقة ضبابية ينجو فيها المجرم من عقاب المجتمع تحت مبرر حجة التأديب إلى أن تم منع ضرب الأطفال بكل أشكاله، ولقد شهد العام الذي صدر فيه هذا التشريع انخفاضاً حاداً في حالات العنف ضد الأطفال". ومن جهته اجتهد المستشار القانوني محمد بن عبد العزيز المحمود في مناقشته لملامح القانون المقترح من خلال تفصيله لحدود التأديب وفق مراحل حياة الطفل، فالطفل يمر بثلاثة مراحل، الأولى"عدم إدراك"، وهي ما قبل سن السابعة، فإنزال العقوبة بالطفل إذا كان دون السابعة ممنوع عقلا وشرعا،وفي المرحلة الثانية " إدراك ضعيف"، وهي مرحلة التمييز، فللمؤدب أن يؤدب الطفل في هذه المرحلة بأسلوبين إما - وقائياً - ويتمثل ذلك في الإرشاد إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وفعل المأمورات وترك المحظورات، فهذه الأربعة قوام التربية، أما في المرحلة الثالثة من حياة الطفل فيأتي"الإدراك التام"، وهي مرحلة البلوغ، وتبدأ هذه المرحلة بظهور علاماتها، وفي هذه المرحلة يؤاخذ الإنسان بجميع تصرفاته وأفعاله ويكون أهلا لإنزال العقوبات الشرعية به عند فعله لموجبها. أما ضوابط تأديب الصبي فيراها المحمود كالتالي ( وقوع ما يوجب التأديب- أهلية المضروب بأن يكون الصبي في المرحلة التي يجوز ضربه فيها وهي تبدأ من بلوغه العاشرة من عمره وتنتهي بالبلوغ- التدرج في التأديب وهنا ليس له أن يضرب إلا إذا مع ظن الإصلاح أما إذا ظن عدم الفائدة فليس له أن يضرب – ثم الالتزام بحدود التأديب من حيثيتين ، من حيث "المشروعية " فيلتزم المؤدب في حال الضرب بصفة آلة الضرب المشروعة ،إما باليد فقط على قول الحنفية أو باليد والسوط على قول المالكية ، وبصفة الضرب فلا يكون مبرحاً ، ومكان الضرب فيتجنب الوجه والرأس والمقتل). وفي الحيثية الثانية تأتي " الملاءمة " ، ويراد بذلك التناسب بين وسيلة التأديب والغاية المرجوة منه، كما أنه يجب في حالة التأديب بالضرب أن يتناسب الضرب مع عمر وسن المضروب كما وكيفا، بحيث يؤمن معه إلحاق أضرار بالمضروب، وكذلك ينبغي أن يتناسب مقدار الضرب مع حجم الخطأ الذي وقع فيه الصبي.