بعد نكبة 1948 وجّه العرب اللوم لفلسطينيي الداخل لأنهم بقوا في فلسطين ولم يغادروها الى الخارج كما فعل الفلسطينيون الآخرون الذين عُرفوا فيما بعد باللاجئين الفلسطينيين. كان اللوم منصباً على هؤلاء الذين آثروا البقاء في ديارهم لأنهم ارتضوا أن يعيشوا في ظل حكم الاسرائيليين ولم يخرجوا من فلسطين مع من خرج. وكثيراً ما غمز بعضهم من وطنية من بقي، إذ من يعيش مع الاسرائيليين غير المتواطئين معهم؟ ثم ما بال هؤلاء يبقون تحت حكم العدو ولا يخرجون ولو لبضعة اسابيع او اشهر وهي الفترة التي قدرها كثيرون لهزيمة «الهاغاناه» وبقية العصابات الاسرائيلية؟ بعدها ستدخل الجيوش العربية فلسطين وتحررها من رجس الصهاينة ويعود الذين غادروها مؤقتاً الى ديارهم مرفوعي الجبين. ولكن فترة الاسابيع او الاشهر القليلة مضت دون ان تتحرر فلسطين والاسرائيليون يحتفلون بمرور ستين عاما على نشوء دولتهم دون ان يتمكن أحد من إعادة فلسطيني واحد الى دياره الاصلية. وهاهم فلسطينيو الداخل يثبتون، ومنذ عام 1948 الى اليوم، أن فلسطين حية في قلوبهم وضمائرهم كما هي حية في قلوب العرب والفلسطينيين الآخرين، وفي قلوب وضمائر الاحرار في كل مكان تحت الشمس. بل ان من الممكن القول ان فلسطين حية عند فلسطينيي عام 1948 ربما اكثر بكثير منها عند اخوانهم الآخرين. اما السبب فهو ان هؤلاء على تماس يومي ومباشر مع عدوهم العنصري الشرس الذي لا ينظر اليهم الا من فوق، وعلى انهم كائنات ادنى منه بشرية وكرامة. كما انهم - وياللجنون - ينازعونه أرض الميعاد، أي أرضه التاريخية المقدسة التي اعطاهم اياها يهوه قبل آلاف السنين. وعلى هؤلاء «الغوييم» (أي غير الاسرائيليين او الأغراب) ان يشكروا الله لأن عدوهم أبقاهم في أرضه ولم يطردهم منها!! وقد أثبت فلسطينيو الداخل على الدوام صلابة وطنية في مقاومتهم للعدوان مابعدها صلابة وطنية. يوم الأرض في روزنامتهم السنوية يوم مقدس خلاله يحتفلون بفلسطين وتاريخها وموروثاتها وتقاليدها. وخلال كل يوم من أيام السنة تشكل فلسطين عندهم نشيداً وطنياً لا يعرف الفتور. ثم إن ممثلي هؤلاء الفلسطينيين في الكنيست الاسرائيلي لا يقلون صلابة وطنية عن مواطنيهم الذين أولوهم ثقتهم. ومع ان الاسرائيليين تمكنوا فعلاً من شراء ضمائر بعض هؤلاء، الا ان السواد الاعظم منهم ظلت فلسطين حية في وجدانهم. ولعل اسرائيل - في سرها - لا تخشى احداً كما تخشاهم. لقد تكاثروا مع الوقت ولم يعودوا مجرد أقلية صغيرة. عام 1948 كان عددهم مئة وخمسين الف نسمة فاصبح العدد الآن - وباعتراف الاسرائيليين انفسهم - مليوناً ونصف مليون. ويقدر الخبراء انهم سيصبحون نصف سكان اسرائيل في عام 2030 أي بعد 22 سنة من اليوم. والعقل الاسرائيلي يبحث الآن عن مخارج «لمشكلته» معهم انطلاقاً من المتاعب التي يسببونها «للدولة» بين وقت وآخر. ذلك انه كلما تمكنت الدولة (اي اسرائىل) من إطفاء انتقاضة لهم في «أم الفحم»، اشتعلت انتفاضة اخرى لهم في «الناصرة» او «صفد» او «حيفا» او في سواها. وهاهي عكا تبرز اليوم على الخريطة بما لها من رمزية خاصة، لتؤكد عروبتها وكونها لم تخن هذه العروبة كما لم تخن تاريخها كمدينة من مدن الثغور. مدينة عجز الصليبيون، كما عجز بونابرت، كما عجز الانتداب البريطاني على فلسطين، عن ترويضها وسلبها هويتها وخصوصيتها. فمع ان عكا العربية تقتصر الآن على أحياء المدينة القديمة التي ظلت على ماهي منذ النزوح الفلسطيني الواسع عام 1948، وتعاني من صور الفقر والاهمال ما لا يستطيع علماء السوسيولوجيا مجتمعين ان يصفوه، الا ان روحها الفلسطينية والعربية والاسلامية في اوجها.. تؤلف ذكرى محمد (صلى الله عليه وسلم) واحلام العرب الشرفاء، كلمة السرّ في قلوب هؤلاء العكاويين المقيمين على الوفاء والاخلاص، صحيح انهم جيب بسيط في مدينة ذات طابع يهودي الان، الا انهم ينظرون الى هؤلاء الاجلاف الذين يقيمون بين ظهرانيهم، على انهم مجرد محتلين او مستعمرين استيطانيين لمدينتهم ولوطنهم، وعلى ان ارض فلسطين ارض عربية خالصة، بل هي وقف لا مجرد ارض. ومن قرية «البروة» التي لا تبعد عن عكا سوى خمسة كيلومترات لا غير (وهي قرية أبيدت بالكامل وأقيم مكانها قرية يهودية باسم آخر) خرج الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي كتب قبل عشر سنوات بالضبط نصاً يذكر فيه عكا ويؤكد على عروبتها وفلسطينيتها تأكيداً خالصاً يستعيد ألقه اليوم والمدينة العربية تخوض مواجهة مباشرة مع محتليها. يتحدث محمود درويش في «الجدارية»: «ها هنا كنا/شارع متعرج يفضي إلى ميناء عكا.. وكانت نخلتان تحمّلان البحر بعض رسائل الشعراء/المنظر البحري، والسور المدافع عن خسارتنا، ورائحة البخور تقول: ما زلنا هنا حتى لو انفصل الزمان عن المكان».. ويصف محمود درويش في «الجدارية» عكا «بأقدم المدن الجميلة واجمل المدن القديمة، علبة حجرية يتحرك الأحياء والأموات في صلصالها كخلية النحل السجين، ويُضربون عن الزهور، ويسألون البحر عن باب الطوارئ كلما اشتد الحصار».. وحصار عكا يتجدد الآن، ويشتد ايضاً. وكما ينظر العنصريون فيها نظرة استعلاء الى هؤلاء الفلسطينيين الفقراء ذوي الاسمال البالية والبيوت القديمة التي تفتقر الى اوليات البيوت اليهودية الحديثة، تشبث اهل عكا بمدينتهم وهويتهم، ويؤكدون هويتها العربية وهوية كل فلسطين العربية ايضاً. لم يبالغ محمود درويش عندما كتب في جداريته: هذا البحر لي هذا الهواء الرطب لي ومحطة الباص القديمة لي وآنية النحاس وآية الكرسي والمفتاح لي والباب والحراس والاجراس لي لي ما كان لي والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي لي ما كان لي: أمسي وما سيكون لي غدي البعيد، وعودة الروح الشريد كأن شيئاً لم يكن كأن شيئاً لم يكن جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثي.. انها رؤيا مستقبلية كما هي رؤيا واقعية. في ظاهر الأمر عكا سجينة مسلوبة القرار يحتلها غاصب لم يعرف التاريخ اشرس منه وأكثر عنصرية. ولكن ربّ سجين اقوى من سجانه. ربّ سجين يرسف في أغلاله وقيوده هو أكثر حرية بل اقوى من سجانه. وعكا اليوم - وهي رمز فلسطين التي لا تموت - خير برهان على ذلك!.