لم يبالغ الذين قالوا عن محمود درويش إنه واحد من أكبر شعراء الإنسانية في زماننا المعاصر مثله مثل لوركا الذي كان يحبه والذي تأثر به، ومثل نيرودا وناظم حكمت واراغون واليوار. فليس من الغريب أنه يُترجم شعره إلى كل اللغات الحية، فقد غاص في مأساة فلسطين وجعل منها (وهي كذلك) مأساة إنسانية هامة تمس وجدان كل من يؤمن بالعدل والحق. لم يكن محمود درويش شاعر فلسطين وحسب، بل شاعر الأمة العربية كلها. وكان قيمة كبيرة على مستوى الشعر وعلى مستوى الوطنية والعروبة. كان قلماً جريئاً نزيهاً رفض كل الإغراءات التي قُدِّمت له، وعاش متبتلاً للقضية وللشعر معاً. في الشعر مثّل مرحلة جديدة بعد مرحلة الرواد ومختلفة عنها. كان نجماً ساطعاً في سماء الستينيات من القرن الماضي وقد بهر النقاد والقراء بقفزاته الشعرية (وكذلك النثرية) المتميزة تاركاً لتاريخ الشعر العربي لآلئ نادرة يمكن التماسها في مجموعاته الشعرية كلها، وبخاصة في "الجدارية" و"ورد أقل) و"لماذا تركت الحصان وحيداً". لم يكن محمود درويش مجرد شاعر كبير لا تقل قيمته عن قيمة امرئ القيس والمتنبي وشوقي والسياب وهذا الرعيل، بل كان أيضاً ناثراً استثنائياً مبدعاً لا يقل نثره أهمية من شعره. والغريب أن نثره كان يأتي، أحياناً كثيرة، موقعاً كأنه شعر موزون. وكثيراً ما تَدَخّل أثناء كتابات نثر كثير له (كما قال لي أكثر من مرة) ليعقل هذا النثر، أي ليبقيه نثراً. فالإيقاع كان في دمه. وكان مما يضفي على هذا الشاعر سحراً خاصاً، سلامة بوصلته الشعرية والفكرية والقومية. لقد كانت له صلاته الوثقى مع أسلافه شعراء العرب الكبار، يفخر بهم، وبخاصة بالمتنبي. وكان صريحاً في رفض الضحالة والرداءة الشعرية. فمقاله في (الكرمل) "انقذونا من هذا الشعر"، لا يزال يتفاعل إلى اليوم. ولا يزال النقاد يناقشون موقفه من قصيدة النثر: هل كان معها أم ضدها. وهذا دليل على أنه كان مع الجودة والشعرية العالية، لا مع سواهما. حفظ محمود درويش للأمة العربية ذاكرتها الممتدة في الجاهلية إلى اليوم، ليس في الفكر وحسب، بل في صياغته التي تعد من أندر وأجود الصياغات. لمحمود درويش قصيدة نثرية طويلة من 490سطراً اسمها (المزامير) وله شعر كثير ليس كمثله شعر. ابن قرية البروة شرق مدينة عكا لن يُدفن فيها بسبب جوهري هو أن الإسرائيليين هدموها عن بكرة أبيها. لجأ محمود درويش مع أسرته وهو في السابعة من عمره إلى جنوب لبنان عام 1948إثر نكبة فلسطين، وعاش في لبنان سنة. ثم عاد مع أسرته متخفياً ليكتشف أن (البروة) دُمرت نهائياً وأُقيم على أنقاضها كيبوتز. أقام أهله في دير الأسد بالجليل قبل أن يستقروا في قرية الجديدة. وقد اعتبرهم الإسرائيليون (غائبين حاضرين) لأنهم كانوا غائبين لدى أول احصاء إسرائيلي للعرب. فعاشوا لاجئين في فلسطين. هذا الوضع هو الذي أوحى لمحمود قصيدته: سجل أنا عربي. انطلق محمود درويش إلى حيفا في الستينيات لينهي دراسته الثانوية، وليعمل في الصحافة في حيفا (مجلة السنارة، ثم مجلة الجديد) وهما مجلتان لهما طابع يساري، وينضم إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح. جنباً إلى جنب مع سميح القاسم وأميل حبيبي وتوفيق زياد. لوحق مراراً واعتقل. وفي السجن كتب قصيدته الشهيرة: أحنّ إلى قهوة أبي (عام 1965). وفُرضت عليه الإقامة الجبرية عقداً كاملاً، لكنه ظل يتنقل بقصائده بين قرى فلسطين بعدما أصدر ديوانه الأول: "عصافير بلا أجنحة" (1960). في عام 1972م يلتحق محمود درويش بمنظمة التحرير الفلسطينية ويختار المنفى فيمضي إلى موسكو ثم إلى القاهرة ويستقر في بيروت. في بيروت يرأس تحرير مجلة (شؤون فلسطينية)، كما يرأس رابطة الكُتَّاب والصحفيين الفلسطينيين، إلى أن أطلق مجلة الكرمل عام 1980م التي انتقلت لاحقاً إلى قبرص فرام الله، ثم احتجبت بعد ذلك. في عام 1981م يكتب محمود درويش قصيدة ملفتة: "أصدقائي لا تموتوا" وكان قد شهد اغتيال صديقه ماجد أبو شرار خلال مشاركتهما في مؤتمر عالمي. وبعد اجتياح بيروت أصدر عمله النثري الأول "ذاكرة النسيان". وتنقل بين تونسوالقاهرة وقبرص وبلغاريا حتى استقر في باريس. عمل مستشاراً لعرفات وانتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1988واستقال بعد ذلك عام 1996م احتجاجاً على أوسلو. وعاد عام 1994م ليقيم في رام الله موزعاً أوقاته بينها وبين عمان. أصدر أكثر من 30ديواناً منها "عاشق من فلسطين" (1966)، و"آخر الليل" (1967) و"حبيبتي تنهض من نومها" (1970م)، و"ورد أقل" (1987)، و"لماذا تركت الحصان وحيداً" (1995)، و"حالة حصار" (2002)، و"كزهر اللوز أو ابعد" (2005)، وأخيراً "أثر الفراشة" (2008). وكان من آخر أعماله قصيدته "سيناريو جاهز" التي نُشرت في الصحف قبل أسابيع. وقد أوردت بعض الصحف أن الشاعر صحا من العملية في هيوستن وباشر في كتابة قصيدة قبل أن يسوء وضعه مجدداً، ومنها: هزمتك يا موت الفنون الجميلة جميعها هزمتك يا موت الاغاني في بلاد الرافدين مسلة المصري مقبرة الفراعنة النقوش على حجارة معبد هزمتك وانت انتصرت.. ورغم إقامته في القاهرةوبيروت وعمان ورام الله وفي مدن عربية أخرى، كان محمود درويش يشعر على الدوام بالمنفى. كان منفياً بامتياز. "لا ينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولي. يضخّم المنفى جماليات بلاده ويضفي عليها صفات الفردوس المفقود.. ويتساءل: هل أنا ابن التاريخ أم ضحيته فقط. كان يعد العدة لرحيله منذ أشهر. ودّع حيفا في تموز يوليو الماضي في الاوديتوريوم. ودّع باريس في الخريف بأمسية نادرة احتضنها "بيت الشعر". ودع رام الله قبل اسبوعين من رحيله في احتفال كبير أقامته بلدية المدينة ونقله التلفزيون إلى ملايين المشاهدين في العالم. نبّه الجمهور يومذاك إلى كونه موعداً وداعياً، واعتذر عن وجوده المستغرب في حفلة تأبينه. وضع الفلسطينيون صورته على طابع بريدي. قصائده الأخيرة: "على محطة قطار سقط عن الخريطة"، و"لعبة نرد"، لا تترك مجالاً للشك. رتب الشاعر الأنيق الذي نادراً ما شوهد من دون بدلة، والشاعر المتوحد وسط الصخب، موعداً مع الطفل الذي بقي هناك في (البروة). أعدّ كل شيء، وكتب وصيته الشعرية. رثى الماغوط وممدوح عدوان. ثم رثى نفسه على طريقة مالك بن الريب "في حضرة الغياب" ومضى. انها نهاية مرحلة أساسية واستثنائية في تاريخ الشعر العربي المعاصر والحديث. اجتاز محمود درويش دورباً متعرجة تختزل مسار الذائقة الشعرية العربية منذ ستينيات القرن الماضي وحتى يومنا الراهن. بين "بطاقة هوية" و"لعبة نرد"، بين "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" و"قافية من أجل المعلقات"، مرّ عصر كامل تخفف خلاله الشعر من أعباء كثيرة. قام محمود، حسب تعبيره، "بتخفيف ضغط اللحظة التاريخية على جمالية الشعر، من دون التخلي عن الشرط التاريخي". في الستينيات كان مناضلاً شيوعياً وشاعراً، وصحافياً في حيفا. قدّم قصائد أولى لا يزال يرددها كثيرون إلى اليوم. في بيروت، بعد لجوئه إليها، بدأ مرحلة جديدة. فبعد "العصافير تموت في الجليل" (1969) و"حبيبتي تنهض من نومها" (1970) كتب "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق" (1975). ومن بيروت إلى تونس في الثمانينيات، فكان "حصار لمدائح البحر" (1984). سنواته الباريسية كانت سنوات التحول الحاسمة. وفي رام الله، رحلته الأخيرة. كتب بعض أجود شعره. وتُعتبر مجموعته "ورد أقل" (1986) بداية مرحلة من أهم مراحله الشعرية. أخذت قصيدته تخفّف من غنائيتها العالية ودراميتها المتوترة، تاركة مسافة نقدية بينها وبين ثقافة النضال والمقاومة، لتعّدل نهائياً صورة الشاعر كناطق رسمي باسم القضية. وتواصل التغير في منتصف تسعينيات القرن الماضي مع صدور مجموعته "لماذا تركت الحصان وحيداً" وانطلقت أعماله اللاحقة "سرير الغريبة" (1995)، و"جدارية" (2000)، و"حالة حصار" (2002)، و"لا تعتذر عما فعلت" (2004)، و"كزهر اللوز أو أبعد". وبقيت المنافي والمذابح والهزائم والهجرات تتلاحق على إيقاع النص الشعري. واللغة المتجذرة في الأرض البعيدة تبني في كل مدينة جديدة امتد إليها المنفى شكلاً للوطن. كان محمود درويش يطل ليذكر الجميع بأن طريق فلسطين تمر في القصيدة، وأن القصيدة رمز لكل الأحلام المجهضة. فالشاعر تماهى مع القضية، ولم يعد أحد يستطيع أن يتبين أيهما أعطى زخماً أكثر للآخر. استحال صاحب "جواز السفر" ضميراً لشعبه لأنه عرف كيف يبقى شاعراً قبل كل شيء، بكل ما تختزنه الكلمة من عري وتقشف، في مهب العاصفة؛ عند ذروة المأسأة. شهد شعر محمود درويش مع الوقت تحولات مفاجئة مدهشة، فاكتسب دينامية جديدة، وأصبح شعراً صافياً. طالب بالحق في إعلان اليأس باعتباره فسحة لتأمل المصير، ودعا إلى "وعي الهزيمة والتحرر من مثيولوجيا المنتصر". وكان لليأس عنده معنى مختلف: "اليأس من الأرض الشعرية والنفسية واللغوية التي تردنا إلى وحدة شبه مطلقة على أرض الغربة، تردنا إلى بداية الشعر". لكن محمود درويش كان أكثر ثباتاً من الافكار التي انجبها اليأس. شاعر الثورة ظلمته الثورة عندما ربطته (ولو مؤقتاً، وفي البداية) بها. هنا بحر من الشعر لا تحده شواطئ بحيرة طبريا. لمست امواجه كل البلاد، وابناؤه في كل بيت ينطق بالضاد مع انه لغة مستقلة قامت بذاتها ثم رحلت بنفسها فجأة من دون أن تتكئ على كتف أحد. لماذا ذهب إلى جراحته وحيداً؟ لأنه هزم الموت مسبقاً بكلمات لن يطمسها عشب الضريح. في البداية بدا محمود درويش شاباً أبدياً انتقى لأشعاره ارضاً خاصة بعيدة عن مناكفات الشعراء والنقاد. يلعب بين الشعر والنثر، لا يحاسبه أحد، كم أنت منسي وحرّ في خيالك، ويستعين في مقدمة ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد" بعبارة أبي حيان التوحيدي: "احسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم". لكن الخلافات حول الشكل لم تزعج الشاعر الذي استطاع أن يرث أرض الكلام ويملك المعنى. لقد استطاع أن يطوّر قصيدته الخاصة بمعايير لا يمكن القياس على غيره بها، أو قياس شعره بغيرها، واحتفظ على الدوام بنضارة القصيدة، وتدفق المعاني والتراكيب والجماليات التي تضرب جذورها في أرض التراث العربي، لكنها تمتد حتى الضفاف الأجنبية. ولم يخطئ من اعتبر انه ابن الأرض العربية وابن العالم كله، رغم ارتباطه الوثيق بتراب فلسطينه. كان ذروة المحلية وذروة الكونية والإنسانية في آن. ومن الظلم اعتباره مجرد "مناضل فلسطيني"، فلقد كان أكثر رحابة وأوسع أفقاً شعرياً وانسانياً. قال مرة: "أتعلم أن الغزالة لا تأكل العشب ان مسّه دمنا؟ أتعلم أن الجواميس اخوتنا، والنباتات اخوتنا يا غريب؟ لا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السلحفاة التي تنام على ظهرها الأرض. جدءتنا الأرض أشجارنا شعرها، وزينتنا زهرها، هذه الأرض لا موت فيها يا غريب".. هكذا قال في خطبة الهندي الأحمر".