«قصة» * يتكوم التلاميذ أمام باب المدرسة الضخم المصنوع من جذوع النخل، يفترشون الأرض، يحملون حقائبهم المتباينة الشكل والمظهر مثل وجوههم تماماً.. هناك وجوه لطيفة، يظهر عليها شيء من أثر النعمة، وألبسة لا بأس بها.. وهناك وجوه بائسة عليها آثار الفقر، والفاقة إلى درجة أنك تستطيع أن تقسم أن بعضها لم يمسه الماء هذا الصباح.. ويفتح الفراش الباب الذي يحدث صريراً مهيباً، ويتسلل التلاميذ في رزانة مفتعلة لأنهم يخافون من خيزرانة المراقب الجلاد، الذي لا يتورع في أن يضربهم في كل الجهات، والمواقع. حينما تدلف إلى فناء المدرسة تشم عبق الكنس والماء المرشوش في فنائها المفروش بالحصباء الناصعة البياض، وحينما تسير تشعر بوخز حبات الحصباء تحت بطانة حذائك فتدرك أنه ما كان حذاءً جيداً. وتدخل الفصل الضعيف التهوية، والضعيف الضوء.. السبورة غير ممسوحة ولا تزال آثار خرابيش الأمس باقية، وقطعة القماش المهترئة التي يمسح بها العريف متدلية من حافتها.. يدخل محسن مع التلاميذ الذين يتحركون برغبة منهكة وكأنهم يعومون في فراغ الفصل، وأخيراً يجلس فوق مقعده المعتاد وهو «ماصة» أو منضدة طويلة تتسع لطالبين، ومكانه بجانب الحائط. يسحب حقيبته من جانبه الأيسر ويضعها الى يمينه بجانب الحائط المتهتك الجص، ويخرج دفتر الواجب.. دفتراً غلافه أصفر وقد طبع على ظهره جدول الضرب، وعلى الواجهة كتب اسمه واسم المادة واسم المدرسة. حينما فتحه ليطمئن من سلامة الحل قبل تسليمه للأستاذ راعه منظر الأوراق التي امتلأت بالبقع والنقاط والشخبطات المتقاطعة، وآثار الأصابع الملوثة..!! جحظت عيناه، ودخل حالة من الذهول والرعب..!! فكل شيء كان يتوقعه إلا هذه المفاجأة غير السارة، والتي كانت نتيجة عبث أخيه الصغير..!! التفت إلى زميله ليريه المأساة وكأنه يستغيث ويستنجد به، لكن زميله لم يعره أي تعاطف أو اهتمام، وظل يتضاحك ويعبث مع صديقه الواقف.. وبتلقائية فطرية خلع الورقة وراح يسطر التي تحتها ويكتب عليها بطريقة سريعة وعاجلة، فقد أدار ظهره لزميله، واتكأ على مرفقه، وأرخى رأسه الى الدفتر، وصار يكتب بسرعة واضطراب، ومرفقه يحك في طلاء الجدار الباهت، ورأس قلم الرصاص يتكسر من السرعة والضغط، فيدخله في البراية ويأخذ في بريه سريعاً فتتناثر النشارة على ثوبه وطاولته ويديه، فيكتب ويداه مرتعشتان ملوثتان بالعرق والنشارة، فيظهر التلوث على الورقة وبين الأسطر، وقبل نهاية السطر الأخير كان المدرس بجسده الفاره الثقيل واقفاً ثم مد يده ووضع اصبعه فوق السطر الأخير، ساداً بذلك جريان القلم وركضه نحو النهاية. يتسمر في مكانه.. عيناه تتجمدان وتغرورقان بالدموع، ويتوقع صفعه على اذنه اليسرى، ثم أخرى على اذنه اليمنى. يهيئ نفسه للصفعة فيصر رقبته وكتفيه، يهمهم المدرس بصوت مربك، ومرعب فيتوغل الصوت إلى أعماق نفسه كذبذبة كهربائية، فيخرج ماء من تحته.. ويسمع زميله خرير الماء، فيتزحزح عن مكانه وهو يقول: «أخ الله يقطعك».. يبتعد المدرس، والماء ينساح ويجري مشكلاً نهراً دقيقاً متعرجاً في الممر بين مقاعد التلاميذ. يمتلئ الفصل بالضحك، والولولة، والتأفف.. ابتعد المدرس ووقف أمام السبورة. نادى بأعلى صوته فراش الفصل كي يأتي بسرعة، جاء الفراش مهرولاً وحمل محسن بين يديه، وكان ثوبه يرشح بالماء والقطرات تتساقط.. والأطفال يضحكون والأستاذ قد سد أنفه بيده.. لحظتها انسد باب المدرسة أمام محسن إلى الأبد.. ٭٭٭ كلما مر محسن بباب المدرسة الخشبي المصنوع من جذوع النخل تذكر الحادث.. وتذكر اصبع الأستاذ الطويلة المعقوفة والتي تشبه رقبة ثعبان شرس.. تذكر ان هذه الاصبع حرمته من العلم والمعرفة.. وجعلته يتخبط كثيراً في دروب الجهل.. كلما رأى قلماً، كلما رأى كراسة، كلما رأى طفلاً يحمل حقيبة تذكر الاصبع ففزع، وفر بعقله وذهب بعييداً.. تشرد كثيراً وحمل الطين والحجارة.. نام جائعاً على الأرصفة.. قاسى من الاغتراب في مدن ليس بينه وبينها ألفة.. عمل في تغيير الزيوت، وتشحيم السيارات، وأماكن البناشر، وعمل أعمالاً ليس بينه وبينها مودة.. ولكنه ظل يقاتل.. يقاتل شبح ذلك الاصبع الملعون.. وبعد عراك مع السنين والأيام انتصر في معاركه من أجل كسب المال، وحقق الكثير مما يريد، ولكن عقدة الاصبع ظلت تلاحقه، وتمنى أن يرى تلك الاصبع فينتقم. كان يتخيلها في نومه ويقظته كشبح أسطوري بشع.. وكانت تسيطر عليه فكرة الانتقام من ذلك العدو الكريه، إلى درجة انه نجر من الخشب اصبعاً ضخمة وجعلها شبيهاً بأصبع ذلك الأستاذ، ثم يأخذ يقطعها بالفأس ويريق علياه الدماء انتقاماً.. ولكن ذلك لم يشف غيظه وغليله.. وساورته أفكار انتقامية كثيرة، ولكن ذلك أيضاً لن يكون علاجاً مضموناً لأزمته.. وذات ليلة كان طفل يتهجى كتابه ويغلط، فينظر إلى أبيه مستنجداً.. فيشيح الأب بوجهه عن عيني طفله، وطفله يتابعه في إلحاح لكي يساعده..! يدفن الأب وجهه بيديه وينخرط في البكاء.. بكى حتى ثملت عيناه بالدموع.. ثم استتم واقفاً وأقسم أن ينتقم، وقرر قراراً لا رجعة فيه.. ذهب وفتش بين أمتعته وفي حقائبه القديمة عن ذلك الدفتر المشؤوم.. وبعد تفنيش وتنبيش عثر عليه.. حدق في مكان الاصبع التي انغرست فوق الورقة أو فوق قلبه.. ثم شرع بكل عزم وإصرار على الكتابة مبتدئاً من ذلك المكان، من ذلك السطر الأخير..