صباح شتوي ماطر، دخل الأستاذ (عبدالباسط) المدرسة مسرعاً، وكأنه يهرب من شيء يطارده.ولج الإدارة، صبح على زملائه المتحلقين حول المدفأة، جلس إلى جانبهم، نظر في وجوههم؟! البعض يشرد، والآخر يبتسم.. احتار إلى أي فريق سينضم؟! فركز عينيه على قطرات المازوت المتساقطة في أنبوب المدفأة، وصمت.. نظر إلى ساعته؟ الدقائق تحث الخطى نحو الثامنة. في الفترة الأخيرة صار يشعر بشيء غريب يحدث في رأسه، تيار يسري من جهة اليمين وآخر من جهة اليسار، يصطدمان في منتصف رأسه! فيبتسم فجأة ثم يشرد في أفق ما.. «تمام الثامنة».. انتفض الأستاذ عبدالباسط واقفاً، اتجه إلى صفه.. دخل، فأخذ كل تلميذ مكانه المعتاد.. - صباح الخير. فرد التلاميذ بحماس: - «صباح النور يا أستاذ»! - اجلسوا وافتحوا كتب القواعد. يراقب التلاميذ يثرثرون خفية وهم يخرجون الكتب من حقائبهم الممتلئة، التفت إلى السبورة، رفع يده ليكتب الكلمة الأولى من عنوان الدرس، وإذا بالتيارين الغريبين يسريان في رأسه يصطدمان!! يجمد في مكانه دون أن يكتب شيئاً، يرمي الطبشورة ويلتفت إلى التلاميذ بوجه صامت وعينين مراقبتين، صمت التلاميذ فجأة وراح كل ينظر اليه، تأمل عيونهم البريئة، وجوههم الصافية وانفجر ضاحكاً.. راح يقهقه ويكركر بشكل غريب فأنشأ التلاميذ يشاركونه الضحك، بصوت مرتفع، وهم فرحون منتشون.. ثم أوقف نوبة الضحك، وأخرج منديلا ومسح حول عينيه وفمه، وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وشرع يشرح الدرس بجدية. لا يعرف لماذا لا تهجم عليه هذه الأفكار الا في الصف، فكلما بدأ بشرح درس، تلح عليه الذاكرة بصورها المأساوية: (أمه المريضة بالسكر الذي أربك حياته وحياتها، أبوه الذي يمشي على عكازه واضعا يده على قلبه - وكأنه اليد ترجو القلب ألا يتوقف فجأة!! خالته التي تحتاج إلى عملية في عينها - واليد قصيرة - ..! خاله الذي يخرج من الصباح الباكر يدفع عربة ليجمع «البافون والنحاس والأحذية القديمة»، بيتهم الطيني تحت هذا الشتاء الماطر قهراً على الفقراء، حبيبته.. التي كانت..) يهز رأسه بقوة ليبعد هذه الأفكار والصور، يرجوه ألا يكرر المأساة نفسها يومياً.. يفلح قليلاً.. يستعيد ما سمعه عن العراق، ،ما يجري فيه من وحشية الإنسان بحقده وأنانيته..!.. فلسطين، ورود تحرق، وبيوت تهدم، وعيون تقلع.. يزداد الضغط على رأسه، فيرفع صوته في الشرح كي يغطي على الصور التي تستبيح ذاكرته: - «يجب أن نحب الناس، كل الناس!.. يجب أن نحترم القانون والنظام! يجب ألا نحتل أحداً.. ألا نكره أحدا.. يجب أن نحافظ على نظافة القلب والصف والمدرسة والشارع والبيت!». البيت!! أي بيت يا أستاذ!؟ بيتك الطيني الخرب الذي يمتلئ بالأوحال والمياه طوال الشتاء! الحب؟؟ أي حب يا أستاذ؟ حب من؟! القانون!؟ أي قانون؟! يكاد ينفجر ضاحكا وهو يلقن التلاميذ المبادئ الفضلى والأخلاق الرفيعة في زمن مكشوف ومفضوح!! لا نعرف هل نخدع طلابنا بهذه الكلمات، أم أنهم هم الذين يسخرون في أنفسهم منا؟! على كل حال لا أحد يعرف شيئا عن بيته الخرب، ولا عن قلبه الخرب، ولا عن حياته أو ذاكرته الخربتين، ولابد أن يظل قدوة للتلاميذ، و(أباً روحياً) لهم، يجب أن يظل لباسه - على قدمه - مكوياً ونظيفا، حذاؤه ينبغي أن يكون نظيفا لامعاً، حتى لو كانت الأوحال تغطي كل الطرقات، أما تسريحته فعليها أن تعطي وجهه الكئيب شيئا من الاشراق والأمل!! ولكن كيف يرتب قلبه ويسرحه؟؟ كيف يداويه.. وذاكرته كيف يكويها؟ كيف يشذبها ويعلمها ألا تربك حياته؟.. كيف يمكنه أن يمحوها كما يمحى درس سابق من سبورة؟؟! هكذا علمونا في الجامعة، يجب أن ندخل المدرسة بأحسن حال شكلاً ومضموناً، وكأن المدرسة قد هبطت من عالم آخر، أو كأن الطلاب أغبياء لا يدركون أنه اذا كان الجو ممطراً فلابد أن يدخل الأستاذ والمياه تقطر من ثيابه القديمة التي ملها وملوها! لابد أن يصير حذاؤه ملطخا بالوحل منهما تفنن في المشي والاحتماء!! يسخر كثيرا حتى يتذكر ما تعلمه في الجامعة من (أصول التربية والتعليم)، فحين صار في الحياة العملية والتدريس فوجئ بالبون الشاسع الذي يفصل بين مثاليات نتعلمها وبين واقع مربك ومأساوي.. يسخر شامتاً متحسراً، ويردد هامساً: (وكأنهم يخرجوننا كي نعلم طلاب أوروبا!! يجلبون النظريات والطرق الناجحة المجربة هناك، لنطبقها نحن على واقع يختلف عن مجتمعهم في كافة مناحي الحياة!.. نريد أن نتطور، فنستورد أساليب النجاح دون أن نبحث عن علاج للفشل المستشري في كل مكان، فنفشل مرتين، ونخذل مرتين!؟؟ هذه الأفكار جميعها تدور يومياً في رأسه، تدور متلاحقة، كأنها شريط سينمائي قديم، يشوش عليه عمله، ويكدر صفو أيامه.. (يجب على المعلم أن يواكب آخر التطورات السياسية والاقتصادية والعلمية.. العولمة، حوار - صراع الحضارات، الاستنساخ، الانترنيت، الموبايل، يجب أن يكون ملماً بكل شيء ومطلعا على كل جديد فالعلم المستقر هو ذاته الجهل المستقر..) كان يمشي مردداً تلك الكلمات في ذهنه عندما استوقفه جاره السمان: - أستاذ عبدالباسط، سلم علينا وخذ ليرة! انتبه الأستاذ مبتسما ابتسامة هي مزيج من الخوف والمجاملة: - آسف لا تؤاخذني.. رد السمان بصوت واضح بارد: أستاذ عبدالباسط، أنت لم تسدد ديونك هذا الشهر؟ - نعم.. الديون! مد يده بطريقة لا شعورية إلى جيبه الفارغ وقال للسمان مرتبكاً: (أرجو أن تصبر عليّ حتى بداية الشهر، فهذه الأيام هي بداية الشتاء والراتب تبخر مع أن الجو بارد!). رمقه السمان بنظرات مؤنبة قاسية.. ومضى الأستاذ، وهو ما يزال يفكر بآخر التطورات التي يجب عليه أن يواكبها.. صعد إلى الباص، نقد السائق أجرته، منتظرا منه أن يعيد اليه الباقي، لكن السائق فاجأه: أنت يا (أستاذ) اعرفك، قبل يومين دفعت لي الأجرة منقوصة!! والآن سأستوفيها منك.. فالحق حق. ابتسم الاستاذ مرددا كلام السائق (الحق حق)!! (أستاذ.. أستاذ) صار يشعر بالخوف حين ينادى بهذه الكلمة، فكلما قال له أحدهم (أستاذ) يوجه له بعدها طعنة ما!! فالمدير يقول له: (أستاذ عبدالباسط يجب أن تكون اسما على مسمى.. انبسط وتفاءل يا أخي، لأنك أصبت التلاميذ بعدوى اليأس والتشاؤم، جاره السمان يناديه أستاذ ليسطو على حصته الشهرية من الراتب! سائق الباص يقول له: استاذ كي لا يعيد له الباقي من الأجرة.. حتى حبيبته في آخر لقاء قالت له: - أستاذ: أنا لا يمكن أن انتظر أكثر، فأنت ستبقى استاذي في الحب والأحلام واسمح لي أن أنتقل إلى مدرسة أخرى فيها الحب والاستقرار بشكل عملي وليس بالمثاليات والكلام واللقاءات.. صار يغضب من كلمة أستاذ، لذلك رجا تلاميذه حين يريدون المشاركة في الدرس ألا يصيحون: أستاذ .. أستاذ، حتى أن إحدى التلميذات قالت مستغربة: وماذا سنناديك إذاً؟. ردّ بغضب: لا تنادونني شيئاً.. ارفعوا أيديكم على الطاولة بصمت..! وبصمت يعود إلى بيته حاملا دفتر التحضير، مع جريدة مليئة بالوعود والمهدئات والدمار والدماء، ورواية عن الحب لكن ليس في زماننا ولا في أرضنا! صباح شتوي ماطر، يدخل الأستاذ عبدالباسط الصف، يأخذ كل تلميذ مكانه، يصبح عليهم فيرد التلاميذ بحماس: صباح النور.. - افتحوا كتب التاريخ.. يتجه إلى السبورة، يرفع يده ليكتب الكلمة الأولى من عنوان الدرس، تخذله يده.. يصطدم في منتصف رأسه تياران قويان.. يرمي الطبشورة... صمت يسود الصف.. يستدير إلى التلاميذ؛ الذين راحوا يتأملونه بصمت، متوقعين أنه سينفجر ضاحكاً، لكنهم فوجئوا بدمعتين حارتين تسيلان على خده.. امتلأت وجوههم الصافية وجوماً.. يتقدم نحوهم بخطوة منهارة.. يرتمي على الكرسي غارقا بالبكاء والنحيب.. قلوب التلاميذ الرقيقة اغرورقت بالدموع متعاطفة مع ذاكرته التي تبث صورا مأساوية مختلطة ومتتابعة: أمه المريضة بالسكر... عكاز أبيه.. بيتهم الطيني .. العراق، فلسطين.. فلسطين... العراق.. عيونهم الصامتة الحائرة راحت تنقل نظراتها بين الأستاذ الذي ينتحب ببكاء شديد وبين نافذة الصف حيث السماء تمطر.. تمطر بغزارة. - تمت -