نحن نتألم للآخرين ولكننا لا نشعر بألمهم، فارق مخيف بين احساس المرء بألمه الذي يوجعه وبين ما يحسه آخر أراد أن يواسيه أو يشد من أزره أو يخفف عنه أو يشاركه أو ينقل اليه احساسا بقربه منه ومعزته له أو يجامله، كعزاء المآتم.. الألم يعض في قلب صاحبه، ويرسم نفسه على وجه صديقه بصفة مؤقتة، قوة محررة تعربد ما شاءت في عروق من يعانيه، وتعبث بأوتار جهازه العصبي على هواها، ترفع لديه أرقام الضغط أو تخفض دقات القلب أو تمسك الجسد عن قدرة المواصلة، لكن تلك القوة لا تتجاوز سطح الجلد عند الصديق المشارك، تظل رسما بألوان هلامية طالما الوجه بالوجه، فاذا افترقا صمد الموجوع على حاله وتبددت الارتسامات على وجه المشارك ربما مع ضحكة عابرة. الحكمة الشعبية عالجت هذا الموقف " هم يبكي.. وهم يضحك " يستجير بها من يضبط متلبسا بالضحك في موقف مشاركة للألم... أريد من تقنيات هذا الزمن أن تبتكر لنا جهازا لقياس درجة الألم مثل أجهزة قياس السكر في الدم أو الضغط، ليس هذا فحسب وإنما يكون لديها قدرة توصيل القلب بالقلب ليقتسم الصديقان حجم الألم بمناصفة عادلة، لكن رغبتي هذه لا تصلح حتى موضوعا لقصة خيال علمي رديئة، فما فطر الله الناس عليه لن تغير منه الأجهزة شعرة. لنعد الى الخيال وقدرتنا على تصور مشاعر الآخرين، فان كان يجدي أريد أن أتصور مدى ما تحس به أمّ تضطر الى قتل ابنها رغم أنها ظلت سنوات تحلم به حين كان مجرد وعد في ضمير الغيب، وأنها التي فرشت له صدرها مهدا للدفء ومسكنا للأمن وجالبا للنوم تزخرفه الأحلام الزاخرة بالعصافير والفراشات بألوان الزهور؟ هل كانت تتألم وهي تأخذ القرار بقتله وبأي حجم كان ألمها؟ هل كانت مغيبة وما أن قتلته حتى استفاقت على زئير وحشي لألم ليس من طاقة البشر؟ هل كانت تحت سيطرة قوة جنونية محمومة زينت لها القتل شجاعة أو خلاصا أو اقامة لعدالة أو رحمة أو وضعا للحد لشقاء أبدي؟ أيا كان الدافع تتوقف الأسئلة عند : كيف تقتل أم الحياة في ابن وهي التي وهبتها له؟ في فيلم هندي قديم رأينا أما عاشقة لابنها الأصغر الشقي (برجو)، تصوب نحوه بندقية لترده عن الاعتداء على فتاة، فلما لم يمتثل قتلته دفاعا عن شرف الفتاة، وقلنا " فيلم هندي "! ومنذ يومين اتصل بي صديق كريم قال إن اسمه أحمد، وأنه دائم التعليق على ما أكتبه باسم مستعار " خطووووط "، وقال إنه يلبي ندائي بالمساعدة بقصة عالمية أقدمها للسيدة ماجدة زكي، القصة أنتجت فيلما أجنبيا يعالج قضية امرأة لها ابن صغير شرير، وآخر كان قد قدم الى الأسرة من عمر ابنها، وعلى عكسه بالغ الطيبة. ارتكب ابنها عدة جرائم بشعة أحسن تدبيرها لتنسب الى الطفل الغريب، كان آخرها مؤامرة للخلاص من هذا الغريب من فوق قمة جبل يطل على المحيط، مع تصوير الأمر على أنه كان الضحية المقصود بالموت لولا أن المعتدي ( الغريب ) ارتبك وسقط. لكن المؤامرة لا تكتمل حين واجه الاثنان معا الموت وهما معلقان بشكل واه من الحافة، في تلك الأثناء وصلت الأم ورأتهما معا يواجهان الموت، حاولت انقاذهما عبثا، وكان لابد أن تختار أحدهما، واحدا فقط، لتمد له يدها ( ويدها الأخرى تتشبث بها حتى لا تسقط معهما) . وفي ذروة ادراكها أن ابنها الفعلي هو الجاني، وأن الغريب هو الضحية، تمد يدها للغريب ويسقط الابن. سألني محدثي أحمد بعد أن فرغ من الرواية: ألا ترى أن هذا الصراع الانساني داخل المرأة بين تغليب الحب الفطري للابن وبين تغليب العدالة، يصلح موضوعا لقصة عربية للسيدة التي طلبت منك قصة؟ قلت : طبعا طبعا، ولكن اجابتي تأخرت طويلا، لأنني حقيقة كنت استمع الى قصة الفيلم الأجنبي باهتمام، غير أنني لم أتمثل صورة لأم وابنين متصارعين، وانما صورة لفلسطين الأم ولابنين لها متصارعين، واحد منهما شرعي، وأشعر بألم عنها لحظة أن تختار.