تطورت الصحافة السعودية خلال العقود الماضية، وحملت في السنوات الأخيرة سمة الصحافة المتخصصة، التي طالت الثقافي والاقتصادي والرياضي والسياسي.. إلا أنها لم تؤسس بعد لصحافة علمية مازالت غائبة عن مشروع صحفي أوسع بكثير من قضية توعية علمية أو تثقيف علمي. وفي وقت أصبح فيه صوت العلوم والتقنية عالياً كمشروع تتوسله القطاعات العلمية والمؤسسات التعليمية، وفي وقت تدشن فيه المملكة جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، وتتحرك الخطة التنفيذية للعلوم والتقنية في مسارات متعددة في القطاعات المعنية بالبحث العلمي والتطوير التقني، وفي وقت تجمع فيه جامعة الملك سعود العشرات من كراسي البحث العلمي، وفي وقت يتواصل الحديث عن مشروع كبير تحت عنوان مجتمع المعرفة، وفي وقت تظهر فيه مشروعات ونشاطات ذات صلة قوية بالعلم والابتكار،، مع كل هذا التطور والحراك الكبير يظل قطاعاً مهماً، ومعني بقضايا العلوم والتقنية والبحث العلمي في الصحافة المحلية غائباً وإلى حد كبير عن مشهد تصاغ فيه سياسات، وتتحرك فيه مشروعات علمية وبحثية، وتظهر عناوين براقة دون قراءة عميقة أو محاولة اكتشاف أبعاد مشروع أو متابعة إعلان كبير من هذا النوع. مازالت الصحافة العلمية في الصحف السعودية تتحرك ضمن إطار التثقيف وضمن قضايا علمية لا تتجاوز في الغالب قضايا الصحة أو تقنية المعلومات. ومازالت المعالجة الصحفية لتلك القضايا تقع ضمن رفع العتب عن الصحف، لا مباشرة مهمة كبيرة ومؤثرة ومستجيبة لشروط التوجه نحو العلوم والتقنية كشرط تنموي حاسم. وما زال الصحفي العلمي المتخصص عملة نادرة بل يكاد يكون مفقودا، وظل الاعتماد الأكبر على متخصصين متعاونين في تحرير صفحات علمية لا تحمل رؤية وسياسة تحريرية واضحة وإنما اجتهادات محرر عن بعد. أحاول لفت النظر لقضية مهمة، تتجاوز مسألة الوعي بالقضايا العلمية ونشر الثقافة العلمية إلى مستوى أن تصبح لدينا فعلاً صحافة علمية فاعلة ومقروءة ومتابعة. الإطار الضيق الذي تتعامل فيه الصحافة السعودية مع القضايا العلمية لن يحقق الكثير طالما كانت الرؤية غائبة عن هذا القطاع الصحفي المهم، وطالما كان التعامل معه يتم من خلال اجتهادات لا سياسة تحريرية واضحة الملامح، ويمكن رصدها من خلال مؤشرات، وطالما لم تستوعب الصحف اليومية فكرة أن تحوز على موقع مناسب في زمن الصحفي المتخصص القادر على ممارسة مهمة تتجاوز بكثير واقع صحافة علمية سمتها الأساسية التثقيف العام، ولم تصل بعد الى مستوى أن تشكل علاقة مهمة وفارقة في التوجه نحو إعلام علمي تنموي، يضع الصحافة العلمية في قلب الحدث العلمي قراءة وبحثاً وتحقيقاً وكشفاً ومساءلة. لا تعني الصحافة العلمية، المؤسسات الصحفية وحدها، انها تعني ايضا مراكز البحث والمؤسسات العلمية، وأقسام الإعلام بالجامعات السعودية، والجمعيات العلمية التي تعنى بقطاع من العلوم بشكل أو بآخر، وتعني أيضا المراكز الإعلامية في المستشفيات الكبيرة والمراكز الإعلامية في الشركات الكبرى التي لديها مراكز بحثية وتعني كل ما له صلة بالعلوم الأساسية والتطبيقية، إنها حلقات تشد بعضها بعضا لتشكل ملامح توجه نحو العلوم، وإذا كانت الصحافة العلمية بعيدة عن كل هذا الحراك، وغير قادرة على الدخول إلى تلك المراكز وقراءة النشاط البحثي ونتائجه، ومتابعة السياسات العلمية وكشف المشكلات وقراءة الوقائع فلن يكون لها دور كبير، سوى ذلك المتعلق بالنوعية العلمية التي ينحسر قراؤها وتتضاءل فاعليتها طالما لم تصل إلى مستوى أن تضع الإعلام العلمي في مشهد الحدث بشكل يقترب من وقائع العلم لا من حقائقه البعيدة والمبشرة فقط. وأمام تدفق المعلومات وتعدد الاختصاصات وولادة تخصصات جديدة، لم يعد حتى هناك فقط صحفي علمي شامل، بل صحفي علمي متخصص بجانب أو آخر من العلوم. أما تكوين الأسر الصحفية وتدريبها وتأهيلها التي يمكن أن تشكل نواة لهذا النوع من النشاط الصحفي فهي الغائب الأكبر عن مشهد الصحافة العلمية بالمملكة. تتحول الصحافة العلمية إلى مادة مقروءة ومتابعة ولها جمهورها عندما تتحول الى مشروعات صحفية بامتياز، تطال قضايا وتكشف ملابسات وتحاور علماء ومسؤولين وتمارس دوراً يتقرب من دور العلم ذاته، فالصحافة العلمية لها وظيفة تعد جزءاً من وظيفة العلم ذاته، ولذا فالصحفي يجب أن يحمل عقلية باحث وقارئ جيد في تخصص ومتابع مستمر للاكتشافات العلمية، وقارئ جيد في التطورات العلمية والتقنية، وذو نزعة صحفية مميزة في قراءة الحدث ومتابعة تداعياته واستدعاء العلماء والباحثين ووضع قصة حدث علمي بين عين القارئ بأمانة وموضوعية ودقة. إن من يحاول اليوم من المؤسسات الصحفية السعودية، أن يستلهم المبادرة سيكون لها قصب السبق في التأسيس لهذا النوع من الصحافة المتخصصة، وذلك من خلال تأسيس أقسام علمية داخل الصحف حتى لو بدأت بعدد قليل من الكوادر الصحفية المؤهلة، المهم أن يحمل القسم رؤية وسياسة واضحة وبرامج محددة، ومن يجد في نفسه من الصحفيين المتخصصين المؤهلات الكافية والشروط المهنية للاقتراب من القضايا العلمية بثقة وتطوير امكاناته في هذه الحقل الصحفي المتخصص سيكون هو النواة الأساسية لمشروع صحفي مهم وحاسم، ومطلوب في السنوات القادمة وبشدة. ما زال هذا المجال مبكرا ومازالت أرضه خصبة، ومازال العاملون فيه ندرة، ليس فقط في المملكة ولكن على مستوى العالم العربي والدول النامية. لا أعرف ان كانت تشكو الصحف السعودية من ضعف مقروئية الصفحات العلمية التي تصدر بين الحين والآخر، وأعتقد أن مثل هذا الانطباع يحتاج الى دراسة وأبحاث اعلامية لها صلة بالجمهور، إلا أنه لا يمكن في ذات الوقت أن تحوز الصحافة العلمية موقعا متقدما في المشهد الإعلامي السعودي سوى عندما تنعتق من فكرة أن الصحافة العلمية دائرتها الوحيدة التوعية والتثقيف الى مستوى أن تكون مشروعات صحفية بامتياز، وعندما فقط تتجاوز صفحات التوعية العلمية التي غالبا تدور حول الصحة والطب والغذاء وتقنية المعلومات لتصل الى مرحلة الاقتراب من قضايا وطنية لها صلة بالعلم، وعندما تقرأ بجرأة نشاط المؤسسات العلمية والبحثية وتحاور باحثيها وتكشف جوانب القوة أو الضعف في نشاطها، وعندما تحيل قضية علمية في جانب منها الى قضية صحفية بامتياز بالتحقيق والكشف والمساءلة ووضعها في مشهد الأعمال الصحفية المتميزة.. حينها تضع الصحافة العلمية نفسها في موقع متقدم من الصحافة المتخصصة، ولن تكون حينها أقل أهمية من الصحافة الاقتصادية، أو الثقافية أو الرياضية. هناك مؤشرات يمكن قراءتها اليوم لالتفات نسبي وان كان محدودا للاهتمام بالإعلام العلمي، فقد عقد في الآونة الأخيرة أول مؤتمر للإعلاميين العلميين العرب، وتشكلت قبل سنتين أول رابطة عربية للإعلاميين العلميين، وأعلن في المؤتمر الخامس للمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا الذي عقد في فاس مؤخرا عن انشاء وكالة عربية للأخبار العلمية.. كل هذه مؤشرات على إمكانية استلهام مؤشرات تؤكد أن ثمة حراك بهذا الاتجاه. وأرى أن المؤسسات الصحفية بالمملكة بإكانها أن تبدأ اليوم في التأسيس الحقيقي لهذا النوع من العمل الصحفي بما يتجاوز فكرة إصدار صفحات علمية فقط الى مستوى تأسيس أقسام علمية قادرة على وضع برامج واستقطاب كوادر صحفية وتأسيس مشروع أكبر بكثير من فكرة إصدار صفحة علمية يحررها طبيب أو متخصص عن بعد. ومن المبشرات أيضاً أن تعقد أيضاً أول دورة لتنمية مهارات الصحفي العلمي بالمملكة وهي فريدة من نوعها حتى في المنطقة العربية، ومن المؤسف أن المؤسسات الصحفية لم تشارك فيها، ولم ترسل أي من صحفييها لحضورها أو الاستفادة منها، ومبادرات الحضور كانت فردية، وكان إخراجها للوجود مهمة شاقة أمام ضعف استجابة المؤسسات الأولى المعنية بها وهي المؤسسات الصحفية السعودية. الصحافة العلمية السعودية حاضرة في صفحات متخصصة يحررها علميون متخصصون ولكن غائبة عن مشهد الصحافة العلمية التي تمتد آفاقها إلى ما هو أبعد عن قصة تحرير مادة في الثقافة الصحية أو تقنية المعلومات، إنها غائبة في التحقيق والكشف والمتابعة، وما زال الصحفي العلمي السعودي مفقوداً، ومازالت تغطية المؤتمرات والجوائز العلمية باهتة وتعتمد على بيانات تصدرها مؤسسات علمية معنية بهذه المؤتمرات. وما زال من حق المسؤول أن يقول دون أن يجد صحفياً علمياً قادراً على كشف علاقة كل هذه النشاط بقصة تنمية وطنية لها احتياجاتها ومتطلباتها وأولوياتها. مازالت أقسام الإعلام في الجامعات السعودية لم تتعرف بعد على منهج أو مقرر حول الصحافة العلمية، ومازالت البحوث الإعلامية تدور في حلقات لا تقترب من قضايا الإعلام العلمي الذي يتطلب ليس فقط اعلاميين ولكن ايضا علميين إعلاميين. ومازال الصحفي السعودي يقلق من الاقتراب من المؤسسات العلمية والبحثية لأنه لا يملك أدوات ومفاتيح فهم نشاطها ومجال عملها، وتعجزه خلفيته العلمية المتواضعة في امكانية تطوير مهاراته وقدراته حتى الاقتراب بثقة من العلماء والباحثين في حوار وبحث واستقصاء هو من يعطي للصحفي العلمي دوره وأهميته.. إنه المجال الذي ينشط فيه العلمي بأدوات الصحفي أو الإعلامي، وهو المجال الذي لن يدخله أي صحفي هش التكوين، إن متطلباته تحتاج تأهيلاً، وهذا التأهيل والتدريب يتطلب مقومات تتعلق بالخلفية العلمية والرغبة وامتلاك ادوات الصحفي وعقلية الباحث في آن واحد.