جهود دعوية وإنسانية لتوعية الجاليات وتخفيف معاناة الشتاء    أمير الرياض ونائبه يعزيان في وفاة الحماد    أمير الرياض يستقبل سفير فرنسا    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائنًا مهددًا بالانقراض    انخفاض معدلات الجريمة بالمملكة.. والثقة في الأمن 99.77 %    رغم ارتفاع الاحتياطي.. الجنيه المصري يتراجع لمستويات غير مسبوقة    إيداع مليار ريال في حسابات مستفيدي "سكني" لشهر ديسمبر    العمل الحر.. يعزِّز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    NHC تنفذ عقود بيع ب 82 % في وجهة خيالا بجدة    العمل الحرّ.. يعزز الاقتصاد الوطني ويحفّز نمو سوق العمل    الاحتلال يكثّف هجماته على مستشفيات شمال غزة    تهديد بالقنابل لتأجيل الامتحانات في الهند    إطلاق ChatGPT في تطبيق واتساب    هل هز «سناب شات» عرش شعبية «X» ؟    المملكة تدعم أمن واستقرار سورية    "أطباء بلا حدود": الوضع في السودان صعب للغاية    حرب غزة:77 مدرسة دمرت بشكل كامل واستشهاد 619 معلماً    السعودية واليمن.. «الفوز ولا غيره»    إعلان استضافة السعودية «خليجي 27».. غداً    رينارد: سنتجاوز الأيام الصعبة    اتركوا النقد وادعموا المنتخب    أخضر رفع الأثقال يواصل تألقه في البطولة الآسيوية    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    غارسيا: العصبية سبب خسارتنا    القيادة تهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    رئيس بلدية خميس مشيط: نقوم بصيانة ومعالجة أي ملاحظات على «جسر النعمان» بشكل فوري    الأمير سعود بن نهار يلتقي مدير تعليم الطائف ويدشن المتطوع الصغير    وافق على الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة.. مجلس الوزراء: تعديل تنظيم هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    الراجحي يدشّن «تمكين» الشرقية    تقنية الواقع الافتراضي تجذب زوار جناح الإمارة في معرض وزارة الداخلية    لغتنا الجميلة وتحديات المستقبل    أترك مسافة كافية بينك وبين البشر    مع الشاعر الأديب د. عبدالله باشراحيل في أعماله الكاملة    عبد العزيز بن سعود يكرّم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبد العزيز للصقور    تزامناً مع دخول فصل الشتاء.. «عكاظ» ترصد صناعة الخيام    وزير الداخلية يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الصقور 2024م    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    زوجان من البوسنة يُبشَّران بزيارة الحرمين    القهوة والشاي يقللان خطر الإصابة بسرطان الرأس والعنق    القراءة للجنين    5 علامات تشير إلى «ارتباط قلق» لدى طفلك    طريقة عمل سنو مان كوكيز    الموافقة على نشر البيانات في الصحة    جامعة ريادة الأعمال.. وسوق العمل!    نقاط على طرق السماء    الدوري قاهرهم    «عزوة» الحي !    أخطاء ألمانيا في مواجهة الإرهاب اليميني    المدينة المنورة: القبض على مقيم لترويجه مادة الميثامفيتامين المخدر (الشبو)    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    عبد المطلب    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    سيكلوجية السماح    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لذَّة التَّذكُّر 2/1
نشر في الرياض يوم 30 - 10 - 2008


إنّني إذء أنءكبّ على هذا الكتاب
فأستعيد ذكريات ما كان منء أمري
في هذه الدّنيا،
سأكون كمن يعيش عمره مرّتين".
ميخائيل نعيمة (سبعون: ص 14)
* كلّ كتابة عن الذّات قمينة بأن تَنزل من الأدب منزلة سَنِيّة لو تهيَّأ لمنشئها من الفنّ ما يجعلها قريبة منء قارئها، وكلّ سيرة ذاتيّة تنطوي على متعة مستكِنّة فيها حتّى لوء لم يُعءنَ كاتبها بقوّة الأسلوب وتجويد السّرد، فللذّكريات سحر غالب، وللقصّ مخايله، وعلى قدءر اللّذّة التي يحسّ بها من يعيد عليك طرفًا منء حياته، تَلَذّ لك تلك الحياة المستعادة، ولا تعتِّم أنء تُقءبِل على من يروي لك جانبًا منء حياته بسمعك وبصرك وكلّ حواسِّك، ولعلّ الحكءي، وهو أصل أصيل في الإنسان، لا يبءلَى، وإنء تكرَّر، بلء تزيده الأيّام جِدّة وجمالاً.
وكتابة السِّيرة؛ سيرة الذَّات وسِيرة الآخرين، تنطوي على ضروب من الدّوافع التي تبعث منشئها على تقييد تلك الحياة التي أضحتء مثالاً أوء أُنموذَجًا يُحتَذَى، فلا تلبث أنء تستدرج نفرًا من المؤلِّفين والكُتّاب لتقييد تلك الحيوات، على ذلك المثال الذي تحدَّر إلينا منء كتب التّراجم والسِّيَر والطّبقات في التّراث العربيّ، ففي ذلك التّراث يشدّك ما انطوى عليه منء وفرة في تلك الكتب التي أُوءلِعت بالمبرِّزين من الرِّجال والنِّساء في غير علم وفنّ، فمِنء سِيَر وتراجم للمحدِّثين والمفسِّرين والفقهاء وطبقاتهم، إلى سِيَر وتراجم للنُّحاة والأدباء والمؤرِّخين والفلاسفة والحكماء والوزراء والكتَّاب.
ولم تَخءلُ الثّقافة العربيّة في عصورها القديمة منء كتابة عن الذّات، ولم يكن الأمر، كما يقع في وهءم نفر من الباحثين، بالقليل النَّزءر، فالسِّيرة الذّاتيّة، أو التّرجمة الشّخصيّة، شاعتء وفَشَتء في العصور العربيّة القديمة، وتكشَّف لجمهرة من الباحثين طائفة ليستء بالقليلة من السِّيَر الذَّاتيّة التي كتبها أدباء وعلماء في شأن أنفسهم كما يقول المستشرق كارل بروكلمان، وكما تنبئ عنء ذلك جمهرة من الدِّراسات الحديثة.
وتختلف البواعث التي تدفع الكاتب لكي يُنءشئ سيرة ذاتيّة، وكأنّ الكاتب إذء يستعيد ما مضى منء حياته إنّما ينزل على رغبة كامنة في ذاته، قدء يُفءصِح عنها، وقدء يُخفيها، ولكنّه، في كلا الأمرين، يَصءدُر عنء دافع أوء باعث يحدوه إلى كتابة تجعل من "الذّات" موضوعًا لها، وهي تتكشَّف شيئًا فشيئًا للقارئ الفطِن، حتّى لوء رامَ كاتبها مواربة ذلك الدّافع أو إخفاءَه، ومنء أشءيع تلك الدّوافع، كما حدّد الكتّاب والدّارسون: التّسويغ - أو "التّبرير" - وفيه يُسَوِّغ الكاتب أفكاره التي اعتقدها، وما نافح دونه منء رأي أوء نِحءلة، وربّما اشتمل هذا النّوع من الكتابة على "سِجَال" بين الكاتب ومناوئيه والمتعصِّبين عليه، ومنء أشهر أمثلته في الثّقافة العربيّة الحديثة السِّيرة الذّاتيّة للكاتب المصريّ سلامة موسى (13781304ه = 1887- 1958م)، "تربية سلامة موسى"، وهي سِيءرة يدءفعها "التّسويغ" لما أخذ به سلامة موسى منء أفكار، فالرّجُل أحسّ من نفسه عُزءلة عن المجتمع الذي يعيش فيه، فألفى منء نفسه رغبة في نقده والخروج عليه:
"وقدء يكون الدّافع الأوّل لكتابة هذه السِّيرة أنّي أحسّ، إلى حدّ كبير، أنّي منعزل عن المجتمع الذي أعيش فيه، لا أنساق معه في عقائده وعواطفه ورؤياه. وعندئذٍ تكون هذه التّرجمة التّبرير لموقفي مع هذا المجتمع، وهو موقف الاحتجاج والمعارَضة. فأنا أكتب كي أُسَوِّي حسابي مع التّاريخ".
غير أنّ هذه البواعث التي يعدّها جورج ماي ذات أصءل "عقلانيّ"، يقابلها بواعث أخرى منشأها نفسيّ أوء ذاتيّ. وممّا اختصّتء به الثّقافة الإسلاميّة منء بواعث "التّحدُّث بنعمة الله"، وهو أصل قرآنيّ جليل يستند عليه نفر من المؤلِّفين المسلمين الذين ألَّفوا في ذات أنفسهم، فسِيرة العالِم المسلم إنّما هي، في بعض أحوالها، صدور عنء هذا الأصل القرآنيّ الذي نقف على شواهد مختلفة له في غير سيرة، ومنء أظهرها كتاب "التّحدُّث بنعمة الله" لجلال الدِّين عبد الرّحمن السّيوطيّ ( 849- 911ه). ويستوقف النَّظر أنّ هذا الأصل القرآنيّ الجليل اتُّخِذ ذريعة أوء مسوِّغًا للحديث عن النّفس، وسببًا للسّرد والحكءي، ولا سيّما أنّ الحديث عن النّفس ثقيل ممجوج، فما بالك بمنء أنشأ يعرض "نبوغه" على النّاس كالسّيوطيّ وغيره، ويزهِّدهم في ذلك نهءي القرآن الكريم عنء "تزكية النّفس"، وذلك في قوله تعالى: (فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمنِ اتّقَى) (النّجم: 32).
واستقرّ في واعية القوم والثّقافة أنّ الحديث عن النّفس من المهلكات، وكرهوا منء ضمائر اللغة "أنا"، وأَتءبَعوا هذا الضّمير بتلك العبارة الشّائعة التي تُخَفِّف منء غُلَوَاء العُجءب، حين التَّحدُّث عن النّفس،: "أنا، وأعوذ بالله من أنا"!، وهمء إذء يستعيذون بالله منء "أنا" فإنّهم يساوون بينها وبين الشّيطان الرّجيم، فللضّمير "أنا" تاريخ شيطانيّ عريق، حتّى عُدّتِ "الأنا" هذه "أنا إبليسيّة"، فيما أنقل عن يوسف القرضاويّ، وهو يقدِّم بين يدَيء سيرته "ابن القرية والكُتّاب"، فعسى القارئ أن يغفر له سطوة تلك "الأنا":
"إنّ كلمة "أنا" حين تَصءدُر من المخلوق: كلمة بغيضة، وأوّل منء قالها شرّ الخلق إبليس. قالها في معرض الرّفض والتّحدّي والاستكبار، حين أمره الله بالسّجود لآدم، فأبى واستكبر، وقال: (أنا خير منه خلقءتني منء نار وخلقءتَه منء طين) (الأعراف: 12)
كانتء "أنا" الإبليسيّة أوّل كلمة في تمجيد الذّات عبَّر بها مخلوق شِرِّير عنء نفسه أمام ربّه. مع أنّه اعترف بخلءقه له (خلقءتَني من نار). فما دمتَ مخلوقًا فَلِمَ تتمرّد على خالقك؟ ولماذا تُعجَب بنفسك، وتنسى فضل ربّك؟!
ولهذا حذّر أهل السّلوك من "العُجءب" وعدّوا الإعجاب بالنّفس من المهلكات، كالشُّحّ المطاع، والهوى المتّبع. بلء إنّ العامّة عندنا يقولون: لا يمدح نفسه إلا إبليس. أخذوا هذا القول من القرآن".
وإذا ما اطّرحءنا ما يُخالط الحديث عن النّفس منء ألوان العُجءب، وإذا ما نحِّيءنا صُدور السِّيرة الذّاتيّة عن التّسويغ وما سواه منء بواعث ودوافع - فإنّ الكاتب حين يتّخذ منء ذاته موضوعًا للكتابة فعساه يُذءعن لرغبة كامنة في أغوار ذاته، تشدُّه إلى نفسه شَدًّا، وحينئذٍ تختلف بواعث السّرد، ويصبح الباعث على السِّيرة الذَّاتيّة نفسيًّا خالصًا، فالكاتب، في هذه الحالة، يَلَذّ له أن يستعيد ما مضى منء حياته، يجد فيها هناءه ومتعته ومعنى وجوده، وهو، إذء يستعيد تلك الحياة، يودّ أن يُشءرك القارئ في اصطياد تلك المتعة، وإلا يجدء ذلك فلا أقلّ منء أن يجد في ذلك الماضي الذي لن يثوب إليه، أنيسًا له في وحءشته، وكأنّه، بذلك، قدء أعلن عزلته عنء مجتمعه الذي يعيش فيه.
يذكر عبد العزيز الخويطر في مقدِّمته للجزء الأوّل منء سيرته الذّاتيّة "وَسءم على أديم الزّمن" ما يعزِّز هذه الرؤية
"ولي عنصر أَثَرَة في هذا، لا أُخفيه، وهو أنّي سوف أتمتّع، قبل القارئ، بذكرياتي كما كانتء، وربّما كانتء متعتي بهذا أكثر منء متعته، فليسمحء لي بهذا، ولءيغفرء لي أنء أمشي أمامه، فأنا مستحقّ ذلك، لأنّ بعض ما سوف أذكره قدء دفعتُ ثمنه سنين منء عمري، أشابت الشَّعءر، وأنهكت الجسم، وأضعفت الحواسّ، وكلٌّ يغنّي على ليلاه، وذكرياتي هي ليلاي، والحمد لله على ما وهبني في حياتي، وهو أعلم بما منع، له الحمد أوّلاً وآخِرًا".
وما يذكره الخويطر ليس بالغريب أو العجيب، فالإنسان ليس له منء "تاريخ" إلا ما مضى منء حياته، وكلّما ارتفعت السِّنّ تولّع الإنسان بحياته الماضية، يشدّه الحنين إليها، ويزهو بها، ويلذّ له أن يستعيدها، حينًا بعد حين، وعسى أن يكون في ذلك معنًى وجوديّ عميق، فإلى أين يمضي بنا المستقبل؟ إنّه يمضي بنا إلى النّهاية، إلى "الموت" ذلك المصير القاتم والفاجع، وليس منء دفءع لشبح الموت سوى الارتماء في حِضءن الماضي، وتُحَقِّق الكتابة، هنا، معناها الوجوديّ، في مقاومة الفَناء والتّشبُّث بالحياة، فسِيرة الخويطر التي أصدرها منجَّمة جزءًا فجزءًا ونيَّفَتء على عشرة المجلَّدات، إنّما تخءفي في أعطافها دَفءع الموت ومقاومة الفناء ومغالبته، وكأنّ عبد العزيز الخويطر استعار منء ألف ليلة وليلة سِرّ الحياة الكامن في استمرار "الحكءي"، فالكتابة هي الحياة، والصّمت هو الموت.
وهذا المعنى الذي تكشَّف لي منء سِيءرة عبد العزيز الخويطر نجد مشابه له في غير سِيرة عربيّة. نجده في "أوراق حياتي" لنوال السّعداويّ، إذء تقول:
"أرفع رأسي منء فوق الورقة، أترك القلم لحظة. لماذا أكتب سِيرة حياتي اليوم؟ الحنين إلى عمري الذي مضى؟ هلء مضى؟ أمء في العمر بقيّة؟ أتكون الكلمات هي الملاذ الأخير للإمساك بما فات قبل أن يفوت؟ نثبِّت الصّورة في الذَّاكرة قبل أنء تتلاشَى؟ مقاوَمة الفناء منء أجل البقاء في الوجود، أو الخلود؟".
وهو المعنى الذي تكشَّف لأنيس صايغ حين أخرج سِيرته "أنيس صايغ عنء أنيس صايغ":
"وأنا بحاجة، اليومَ، وقدء لامسءتُ الخامسة والسّبعين من العمر، أنء أستعرض حياتي أمام عينيّ: أفكاري وأعمالي ومواقفي وصِفاتي ومشاعري وأخطائي وتقصيراتي ونشأتي وأصدقائي وينابيع شخصيّتي...
إذنء فأنا أكتب لنفسي عنء نفسي، وقدء يكذب المرءء على الآخَرين لكنّه لا يكذب على نفسه".
ولكنء ما الذي يدفع إلى ذلك؟
إنّها الشّيخوخة، هذا الشّبح الرّاعب الذي يجعل الإنسان "صائرًا" لا "كائنًا"، كما يقول أندريه جِيدء، و"الشّيخوخة - كما يقول أندريه موروا - هي الشّعور بأنّه قدء فات الأوان، وأنّ اللّعبة قد انتهتء، وأنّ المسرح - من الآن فصاعِدًا - قدء أصبح مِلءكًا لجيل آخَر!". (زكريّا إبراهيم، مشكلة الحياة: ص 153)
والإنسان يحمد لله أنء أنعم عليه بنعمة "الذَّاكرة"، ففيها المنجى والملجأ منء قسوة الحاضر ووحشيّته، وبالذِّاكرة يبني الإنسان حياة أخرى باطِنة، وتُسءتَرَدّ، آنئذٍ، ذكريات الطّفولة والشَّباب فِرَارًا منء شبح الشّيخوخة، وهذا ما أدركه أرنست رينان حين جعل منء "ذكريات الشّباب والطّفولة" عنوانًا لسِيرته الذّاتيّة، وفي هذا المعنى يقول رينان:
"ما زلتُ إلى الآن كلّما سمعتُ أحدًا يغنّي "لنء نعود إلى الغاب"، أوء "مطر، مطر، يا راعية" لا أتمالك أنء تعروني لذلك هِزّة خفيفة". (جورج ماي، السّيرة الذّاتيّة: ص 56)
إذنء! ما العمل؟
ليس إلا "الذّاكرة" فعسى أنء تبوح بأسرارها وأطايبها! وتكشف شيئًا منء قُدءس أقداسها، وإنّ من يفقد ذاكرته كمن يفقد حياته، وهل الحياة إلا تلك الطّبقات التي تكوِّنها الذّاكرة، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي له ذاكرة، يَسءعَد بها ويَشءقَى، ولا جَرَمَ أنّها، بحلوها ومرّها، ستكون مثابة للنّاس وأمنًا منء سِجن العمر، ذلك السِّجن الذي وصفه عليّ الطّنطاويّ (14201327ه = 1909- 1999م) بأسلوب فذّ، فقال:
"وأنا رجل كلّما تقدَّمتء به السِّنّ ازداد إيغالاً في عُزلته وهربًا منء جماعته، فكأنّه يقطع كلّ يوم خيطًا منء هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزّوارق الصّغيرة التي تمءخر عُبَاب الحياة مجتمعة... حتّى غدوتُ وقدء رَثَّ حبلي وتصرَّم إلا خيوطًا: طائفة من الأصحاب لا يبلغون عدد أصابع اليدين، وأماكن هي أقلّ منء ذلك؛ لا ألقى سواهم ولا أرتاد غيرها. ولمء يبءقَ لي في لياليَّ الطِّوَال مؤنس أوء سمير إلا هذه الكتب وهذا الماضي، أزداد كلّ يوم تعلُّقًا به وحنينًا إليه، أمّا المستقبَل فأخافه ولا أجءرؤ على التّفكير فيه".
ولكنّ الحياة إنء هي "إلا مجموعة الذِّكريات".
هذا ما انتهى إليه عليّ الطّنطاويّ في ذكرياته التي حال الموت دون إكمالها، فبلغت ثمانية مجلَّدات بديعة. وأحسب أنّ هذا المعنى الوجوديّ العميق لم يكنء ليدركه عليّ الطنطاويّ في صدءر شبابه، فقدء علّمتءه شيخوخته منء معاني الحياة ما لم يعلمءه في شبابه. فما الذي تعنيه له الحياة، وقدء طعن في السِّنّ؟ إنّها لا تعني له سوى "الذّكريات"، وليس الحبّ كما عبَّر عنء ذلك شاعره الأثير لديه أحمد شوقيّ:
"الحياة الحبّ، والحبّ الحياة". هذا ما قاله شوقيّ، ولكنّي لستُ في هذا معه؛ فقدء يموت الحبّ ويعيش ناس بلا حبّ. وما أنا منء أنداد شوقيّ، لكنء لوء قال: "ما العيش إلا الذِّكريات" لكان أصدق"!
وعلى هذا فحياة الإنسان حياتان؛ ظاهرة محدودة بحدود الحاضر وقيوده، وباطنة جِمَاعها الذِّكريات التي عَبَرَتء على سطح التّاريخ، ونجتء من الذَّوَاء والفَناء، ووجدتء لها في طبقات العقل مُسءتَقَرًّا، فأمّا الظّاهرة فنثريّة، وأمّا الباطنة فشِعءرِيّة، وهي الحياة الحَقّة، وما "الحياة إلا مجموعة من الذِّكريات"، كما يقول عليّ الطّنطاويّ، وهي خُلاصة التّاريخ الإنسانيّ، وإلى ذلك انتبه الشّاعر البُحتُرِيّ حين قال منء وراء القرون:
عَيءشٌ لَنَا بالأَبءرَقَيءنِ تَأَبَّدَتء
أّيَّامُهُ وَتَجَدَّدَتء ذِكءرَاهُ
فَالعَيءشُ ما فَارَقءتَهُ فَذَكَرءتَهُ
قِدءمًا وَلَيءسَ العَيءشُ ما تَنءسَاهُ
وهو المعنى الذي نجده في سِيرة غابريل غارسيا ماركيز "عشتُ لأروي"، وكأنّه نَثءر لما قاله البُحتُريّ شِعءرًا:
"الحياة ليستء ما يعيشه أحدنا، وإنّما هي ما يتذكّره، وكيف يتذكّره ليرويه".
وقدء عبَّر عليّ الطّنطاويّ، في فاتحة ذكرياته، عمّا تحمله "الذِّكريات" منء بذور "الحياة"، وصاغ ذلك، وهو الكاتب البيانيّ الكبير، بأسلوب مبنيّ على التّشبيه المركَّب، فقال:
"فهذه ذكرياتي، حملءتُها طُولَ حياتي وكنتُ أعُدُّها أغلى مقتنياتي، لأجِدَ فيها يومًا نفسي وأسترجع أمسي؛ كما يحمل قِرءبة الماء سالكُ المفازة ترُدّ عنه الموت عطشًا. ولكنء طال الطّريق وانثقبت القِرءبة، فكلّما خطوءتُ خُطوة قطرتء منها قطءرة. حتّى إذا قارَب ماؤها النّفاد، وثقُل عليّ الحِمل، وَكَلَّ منِّي السّاعد، جاء من يرتق خرقها ويحمل عنّي ثِقلها ويحفظ ما بَقِيَ فيها منء مائها".
وكلّما أوغل الإنسان في السِّنّ وهدف إلى الهاوية يستميت في استعادة ما مضى له منء حياة، وإذا ما أسعفتءه الذّاكرة فإنّه يمعن في إحيائها، وكأنّه حين يبعثها فَتِيّة ذلك الشّاعر الجاهليّ الذي وقف على الأطلال، وجعل يناجيها ويهمس في تلك الأرض الموات، فعسى أنء يبعث في أوصالها الحياة، وهو إذء يفعل ذلك إنَّما يدفع الموت عنء روحه، أمّا إذا خانتءه الذّاكرة لضعف أو خرف فما أشقى حياته، وويلٌ له مَنء فقد ذاكرته! إنّه يفقد عمره كلّه، ولك أنء تتخيَّل امرءًا منء دون ذاكرة، إنّه كائن مسطَّح، يعيش اللّحظة دون أن يحتفظ بها أوء يستردّها. أحسّ بذلك شاتوبريان إذء قال:
"ماذا سنكون بدون ذاكرة؟ سننسى أصدقاءنا، أحبَّتنا، مسرّاتنا، أعمالنا. وسيعجز العبقريّ عن استجماع أفكاره، ويخسر أكثر العشّاق اندفاعًا رِقَّته إذا عجز عنء تذكُّر شيءء. سَيُخءتَزَل وجودنا إلى لحظة متعاقبة منء حاضر يتلاشى أبدًا، ولن يكون لنا ماضٍ أبدًا. أيّ مخلوقات مسكينة نحن، فحياتنا من الخواء بحيث إنّها ليستء أكثر من انعكاس لذاكرتنا". (ميري ورنوك: الذّاكرة في الفلسفة والأدب، ص 150)
والإنسان يلذّ له أن يستردّ طرفًا منء حياته الماضية، ويألم أشدّ ما يكون الألم إذا أُصيب في ذاكرته، أوء عزّ عليه استعادة جزءء منها، ويسعد المرءء منّا إذا ما حكى له أحد أقربائه طَرَفًا منء صباه ونشأته الأولى، وتجده هاشًّا باشًّا كمنء وجد عزيزًا فقده، أوء ضائعًا أيِسَ منء وجدانه، ومن يفعل ذلك كمن يقف على الأطلال، يستذكرها، ويطلب إلى رفقائه أن يستذكروها معه، وكلُّ إنسان، مهما تكنء سِنّه، لا بدّ أنء يقف على "الأطلال"؛ أطلال حياته، ولا بدّ أن يستحثّ رفقاءه لبعث الحياة في تلك الأطلال، كما فعل محمود سامي الباروديّ ( 1255- 1322ه = 183- 1904م) في فجر العصر العربيّ الحديث، حين قال:
أَيءنَ أَيّامُ لّذَّتي وَشَبَابِي
أَتُرَاها تَعُودُ بَعءدَ الذِّهَابِ؟
ذَاكَ عَهءدٌ مَضَى وَأَبءعَدُ شَيءءٍ
أَن يَرُدَّ الزَّمَانُ عَهءدَ التَّصَابِي
فَأَدِيءرَا عَلَيَّ ذِكءرَاهُ إِنِّي
مُنءذُ فارَقءتُهُ شَدِيءدَ المُصَابِ
وكما قال، في أثره شوقيّ (13511285ه = 1868- 1932م)، وكان كثير البكاء على شبابه، فليس لنا إلا الماضي نلوذ به، فعسى أن نجد فيه الأمن والاطمئنان:
اختلافُ النَّهَارِ واللّيلِ يُنءسِي
اُذءكُرا لي الصِّبَا وأَيَّامَ أُنءسِي
وَصِفَا لِي مُلاوةً مِنء شَبَابٍ
صُوِّرَتء مِنء تَصُوُّرَاتٍ وَمَسِّ
عَصَفَتء كَالصَّبَا اللَّعُوبِ وَمَرَّتء
سِنَةً حُلءوَةً، وَلَذَّةُ خَلسِ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.