مدخل: أراد الحجاج بن يوسف الثقفي في يوم من الأيام أن يداعب عبدين له، أحدهما أبيض اللون والآخر أسود، فقال لهما: ليهجو كل واحد منكم الآخر بشعر، فإذا جاء شعر أحدكما أفضل من الثاني؛ فإني سأعتقه: فقال الأسود: ألم تر أن المسك لا شيء مثله وأن بياض اللفت لا شيء فاعلم وأن سواد العين لا شك نورها وأن بياض العين لا شيء فاعلم يشير إلى أن المسك لونه أسود، واللفت هو نوع من الخضروات لونه أبيض رخيص الثمن فقال الأبيض: يرد على الأسود: ألم تر أن البدر لا شك نوره وأن سواد الفحم حمل بدرهم وأن رجال الله بيض وجوههم ولا شك أن السود أهل جهنم فتعجب الحجاج من قدرة العبدين على هذه البلاغة فأعتقهما معا. @مفهوم المناظرة وتاريخها: المناظرة من النظر وهو تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته وقد يراد به التأمل والفحص وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص وهو الرؤية والمناظرة اصطلاحا تردد الكلام بين شخصين يقصد كل منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في ظهور الحق فهي عبارة عن حوار ومناقشة يشترك فيها اثنان أو مجموعتان يتبنى كل واحد رأيًا مخالفًا يحاول أن يعرضه مع براهينه تأييداً لرأيه ودحضًا لرأي خصمه كغلامي الحجاج في مثالنا السابق؛والمناظرات فن أدبي رفيع نراه متجلياً في الأدب العربي بصفة عامة وينقسم في حقيقته إلى قسمين: الأول: المناظرات الواقعية وهي تجري على أرض الواقع بين شخصين متباينين فكريا في موضوع معين سياسي أواجتماعي أو ديني أو ثقافي ومن أشهر المناظرات الواقعية في الأدب العربي مناظرة النعمان بن المنذر وكسرى أنوشروان في شأن العرب. الثاني: المناظرات الخيالية - وهي ما نحن بصدده - وهذه يجريها الأديب أو الشاعر بين الكائنات الحية أو الجمادات أو الأحداث الفلكية أو الأجرام السماوية وغير ذلك ومن هذه أمثلة المناظرات مناظرة بين فصول العام لابن حبيب الحلبي (ت 401ه) ومناظرة السيف والقلم لابن الوردي (ت 749ه) ومناظرة صاحب أبي تمام وصاحب البحتري للآمدي (ت 631ه) ومناظرة الجمل والحصان للمقدسي (ت875ه) وهناك مناظرات عديدة لجملة من الأدباء كالمناظرة بين الليل والنهار أو بين الأرض والسماء أو بين البر والبحر أو بين الهواء والماء وما شابه ذلك. ولم يكن هذا فن المناظرات منحصراً في زمان أو مكان معين بل كان متمدداً وشاملاً للشعر والنثر وإن كان صورته في النثر أكثر إشراقاً. @شروط المناظرة: رغم أننا ألمحنا في ثنايا ما سبق إلى بعض الأصول المتبعة في المناظرة إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أنه يمكن أن نطلق على كل حوار أو مناقشة مناظرة إلا إذا توفرت فيه شروط ثلاثة أشارت إليها مصادر الأدب العربي: الأول: أن يجمع بين خصمين ومتضادين أو متباينين في صفاتهما بحيث تظهر خواصهما كالربيع والخريف والصيف والشتاء. والثاني: أن يأتي كل من الخصمين في نصرته لنفسه وتفنيد مزاعم قرنه بأدلة من شأنها أن ترفع قدره وتحط من مقام الخصم بحيث يميل بالسامع عنه إليه. والثالث: أن تصاغ المعاني والمراجعات صوغاً حسناً وترتب على سياق محكم ليزيد بذلك نشاط السامع وتنمي فيه الرغبة في حل المشكل. @المناظرات في الأدب الشعبي: لا شك أن الأدب الشعبي في كل اتجاهاته يتفق مع الأدب العربي تماماً إلا في جانب اللغة حيث يفتقد لقواعد النحو التي جعلت اللحن يسيطر عليه وإلا فهو ابن العربية الذي ينهل منها ويرجع إليها ويتوافق مع كل إبداعاتها ويختزن أسرارها، والحقيقة أن الأستاذ عبدالله بن عبدالعزيز الضويحي في كتابه (الإبداع الفني في الشعر النبطي القديم) يعتبر من أوائل المشيرين إلى هذا الفن الأدبي كجانب إبداعي في الشعر النبطي، حيث برع الشاعر الشعبي في ابتكار المناظرات الخيالية - وهي محور حديثنا - فظهرت مقدرته الفذة في صياغة الفكرة بطريقة قصصية مسرحية في حوارها وأحداثها والمناظرات الخيالية في الشعر الشعبي،وأزعم أنه يمكننا إدراج عدد من المساجلات بين الشعراء في هذا الباب ولكني فضلت عدم التطرق إليها هنا وأجلتها لحديث آخر وحسب ما ظهر لي تنقسم المناظرات الخيالية في الشعر الشعبي إلى قسمين: القسم الأول: المناظرة في القصيدة ذات السياق الواحد حيث يبدأ الشاعر في قصيدته بمقدمة يشرح فيها قصة المناظرة حيث يمثل الشاعر دور القاضي بين المتناظرين ثم يسرد المناظرة بطريقة قصصية حتى يعلن في النهاية حكمه في القضية، فالقصيدة هنا مجرد قالب يحتوي المناظرة، ومن أوائل من صاغ هذه المناظرات وأبدع فيها الشاعر بديوي الوقداني (ت1296ه) حيث أورد له صاحب الأزهار النادية مناظرتين الأولى بين السليق والشاي والثانية بين البن والتنباك (الدخان) ومن أبيات المناظرة الثانية: هيض علي دعوة بين كيفين البن والتنباك جوني خصيمين سار المعاند والجكر بينهم بين والكل منهم يدعي بالزيادات قالوا رضيناك استمع كل جابه ثمر لنا في علمنا والطبه واحكم لنا بالحق فك النشابه قدام مجرود النقا والحرابات ومن دعوى البن في هذه القصيدة: قال أدعي يا قاضي المسلمينا بسم الله الرحمن وأخزي اللعينا أنا ادعي بالزود في كل حينا أحسن من التنباك في كل قات احسن منه يوم الجدود الأوايل كم واحد مني كسب له جمايل فنجال يسوى ملك عند القبايل وأنا كمال الضيف في كل حزات ولنقرأ شيئا من دعوى التنباك: ثم أدعى التنباك من قلب فاضي قال استمع يا من رضيناه قاضي حكمي على الأشراف والترك ماضي وحكمي على عربه وباشا وغاوات وحكمي على أهل الود وأهل الغراما وحكمي على اللي يشربوني نشاما كم واحد عينه عليها عساما من خرمتي راسه يجي فيه موجات ليحكم الشاعر في نهاية القصيدة التي تصل إلى 48بيتا: حكمت لك بالزود ياصيلب البن سلطان من فرعه وأعز مسكن تاخذ عليه الزود برضا وغصبن وهو يمشي الحال قضيان عازات هذا قياسي والله أخبر وعلام ثم أشرفوا حكمي على جمع الاسلام قولوا لهم بالله عسى فضلكم دام وأنا مفرش حلتي للنزولات فالمناظرات هنا لا تتسم بطابع الجدية أو المنطق دائماً كما في مناظرة الوقداني، فقد يكون لعاطفة الشاعر وقناعاته حضورها ولكنها على أية حال تميل إلى الفكاهة والطرافة وقد تكون تهدف إلى التسلية والترفيه ولا تخلو من لمحات توجيهية ماهرة وإشارات خفية ساخرة كما أن فيها عرضا لقدرات الشاعر وثقافته ومن طرائف هذه المناظرات مناظرة بين الجمل والسيارة ويسمونها (الترنبيل) للشاعر مستور المطرفي وأخرى للشاعر أحمد عطية الغامدي ومناظرة مشتركة للشاعر عبدالله بن دويرج والشاعر عبدالرحمن الربيعي بين القهوة والشاي.ومن مناظرة الغامدي التي جاءت في حوالي سبعين بيتا من الشعر: طاب المثل والفن بين الغريمين خصمين متعادين صلفين صعبين قام الدعاوي والطلب بينهم بين والكل منهم له مقاصد وشانِ يا اجواد لو ما الحق بين العبادي كان الضعيف مع القويين غادي قالوا: صدقت وقلت: هذا المرادي غير اذكروني بين قاصي وداني لنصل بعد هذه المقدمة إلى سماع دعوى كل من المتخاصمين: قال الترنبيل: الذي جاك مأذون أنا ضماني في يديك الدركسون أقعد على الكرسي وخليك مامون ياسرع ما أوديك دار أماني قال الجمل: باس ربي كفيلي على طريق الخير دايم دليلي الصبر مفتاح الفرج والجميلي أنا ممسك بالرسن والبطاني قلت: ادعوا وأنا قبلت الكفالة من الذي يقدم ونسمع مقاله قال الجمل: خله يقدم لحاله يحتج و أنا قاعد في مكاني قال الترنبيل: أسمع إن كنت قاضي أنا أتقدم ما علي اعتراضي الأوله وجهي من النور ياضي وأمشي على ضو بعيدٍ وداني ولكن الجمل لم يسكت فأخذ يدافع عن نفسه: البل عطايا الله إن سلت عنها عند البداوي ما يقدر ثمنها حلايب الخطّار حلو لبنها جدت به المجمول عند ابن ثاني يا ترنبيل الفشل وين باغي لحمك من الكوتشوك وعظمك براغي قدام ما حطوا عليك الصباغي دقوك بين المطرقة والسناني وفي النهاية يحكم بينهما الشاعر: كلامكم عندي مسجل ومعلوم والحق يظهر يا غريمين مفهوم أما الفضيلة للجمل دايم الدوم هذا الصحيح والله المستعان ونلحظ هنا أن غالب المناظرات جاءت بطريقة (المروبع) حيث يلتزم الشاعر بقافية معينة في ثلاثة أشطر في حين تكون قافية البيت الرابع ثابتة على طول القصيدة، وذلك لأن هذا البحر أولا يتميز بموسيقاه الداخلية التي تشد الاسماع وثانيا ولقدرته في استيعاب معاني وألفاظ المناظرة وأحداثها فيكون المجال مفتوحا أمام الشاعر للإبداع حيث لا تضيق عليه القافية. وأما القسم الثاني: فهو أن تأتي المناظرة على شكل مسرحية شعرية تظهر المناظرة فيها كأبيات مستقلة بغض النظر عن عددها لكل من المتناظرين وبصورة تراتيبية مقطعة وليست في سياق قصيدة واحدة وإن كانت تلتزم بنفس الوزن والقافية فهي أشبه بالمحاورة ولكنها في الحقيقة مناظرة خيالية يبدعها الشاعر المتمكن ويهدف من ورائها إلى تحقيق أهداف دينية وتربوية وهذا القسم نشأ متأخرا وذلك في النصف الثاني من القرن الرابع عشر بعد انتشار العلم واطلاع الشعراء على المسرحيات الشعرية لشعراء العربية المعاصرين، وبرز في هذا الفن الشاعر عبدالمحسن بن ناصر الصالح ربما بحكم عمله في التعليم لأن نرى أنه يهدف إلى تحقيق أهداف علمية وتربوية ودينية يتحقق ذلك في مناظرته التي أبدعها بين السيف والقلم سنة 1374ه وأخرى بين المتعلم والجاهل سنة 1365ه ولكنه جعل شعر المتعلم بالعربية الفصحى وشعر الجاهل بالعامية، وفي الحقيقة أن الشاعر هنا لا يضع نفسه كطرف ثالث في المناظرة ليحكم بين المتناظرين بل يجعلهما يسيران في المناظرة حتى تتضح الأمور وربما غلّب أحدهما على الآخر وسنعرض شيئا من المناظرة الأولى بين السيف والقلم حيث قال السيف: ورا راسك هو الحدري وتفالك من تحتك يجري استر روحك ياهالخكري واستقعد عطاك النفرة وش امرك دايم نكّاسي ما تمشي إلا على الراسي ارفع راسك مع الناسي عسى راسك مءيءة كسرة ليرد القلم: أنت من أنت ووش تكون؟ عقلك جزم إن فيه جنون يا جسم من غير عيون خذ الله فاهي هالكشرة يمّا إنك خبل وسكران وإلا مغويك الشيطان تزكل نفسٍ كبر أبان هوّد ترى القوة خطره وأما المناظرة الأخرى بين المتعلم والجاهل فكما ذكرنا جعل شعر المتعلم فصيحا وشعر الجاهل عاميا ولم يلتزم توحيد القافية بينهما حيث قال المتعلم: أقم يا قليل الفهم للجهل مأتما فها هو تحت راية العلم قد ثوى رماه بسهمٍ صائبٍ فأجاده فخرّ صريعاً سلم الروح في الهوى ليكون رد الجاهل: وراك تعيرني بكثر الجهالة وأنا ذهينٍ تقل حاسب وقاري ما تدري إني باشة ولد باشة بيه أفندي سيف جفتٍ سواري صقرٍ حصانٍ ما يبارنه البقر ذيبٍ حبيبٍ ما يخافن حماري وأخيراً...فهذا جانب مضيء من جوانب الأدب الشعبي هدفنا إلى توضيحه للقراء الذين قد يغيب عن ذهن بعضهم شيئاً منها في ظل الثورة الشعرية الفضائية العوراء التي لا ترى أدبنا الشعبي إلا من خلال شاعر تعيس يلقي قصيدة على منبر المدح الكاذب أو الغزل العائب.