للشعر على الدوام الدور الكبير والمزايا الحمية في تعزيز الثقافة والتواصل وإثراء العلاقات الإنسانية بين الأمم والشعوب وللشعر في دور أساسي في صياغة الثقافة العربية عبر العصور. والشعر هو فن اللغة العربية الأول وبه ترتفع الهمم وتعلو العزائم وتشمخ النفوس ولقد قال الجاحظ في كتاب الحيوان: (والشعر صياغة وضرب من التصوير). وبالطبع فإن الشعر الأصيل هو الذي يعبر عن الشعور. الشعر يحفظ ما أدوي به والشعر أفخر ما يبنى عن الكرم لولا مقال زهير قصائده ما كان يعرف جودا كان في الهرم ولقد استأثر الشعر قديما وحديثا بالاهتمام والاحتفاء لما تفيض به وجدانيات الشعراء في كل زمان ومكان وما تزخر به القصائد على ألسنتهم وتجري بها أقلامهم معبرة عما تجيش به النفوس وما تفيض به القرائح لتحقيق رسالة الشعر ووظيفته في الحياة فهو نبض الوجدان. والشعر لغة وصورة وموسيقى وإمتاع وأداة بناء ووسيلة إصلاح وتقويم. ولقد بدأت رحلتي مع الشعر مبكراً وكانت له محبا ومتذوقاً وقارئاً وحافظاً لقصائد أعلام الشعر وفحوله منذ الصغر واستشهد به كثيراً في مواقف متنوعة ولكل موقف أبيات تصادف وقعاً في نفسي وألقيت أول قصيدة في نادي دار التوحيد بالطائف عام 1371ه وكانت المحاولة الأولى وتبعتها بعض المحاولات حيث تدفقت القصائد بشكل تلقائي، ثم كان حظها الوأد ونصيبها النسيان. والشعر كما هو معروف يحتاج إلى صقل مستمر للموهبة وممارسة لقرضه وترويض دائم لملكة الشعر والتي هي انعكاس الحياة على نفس الشاعر؛ فالشعر أدب وفن وفكر جميل وتعبير وأخيلة وحلاوة لفظ وجمال قول؛ فهو يجسد العاطفة والوجدان والإحساس والشعور، وللشعر في المجتمع العربي منزلة ومكانة سامية ينهض فيها بالقيادة الوجدانية، وهذا السمو لم يتوافر عفو الطبيعة فقد كان الشعراء العرب يضربون آباط الإبل من أنحاء الجزيرة لحضور المواسم الشعرية في عكاظ وذي المجاز ومجنة وهجر واليمامة والمربد وغيرها، وكانوا يفدون بحولياتهم ومعلقاتهم وتتلاقح الآراء وتتفاعل الأقوال والأفكار وكان حكم القبة الحمراء في انتظارهم حيث إصدار الأحكام وتقويم الإنتاج. والشاعر هو مرآة عصره وعنوان لحياة أمته وهو سراجها والدم الذي يتدفق في شرايينها بنبض الحياة والمحبة يجسد كل آمالها ويعكس تطلعاتها ويبرز طموحاتها ويصور آلامها ويجسم بريشته المثل والقيم والأخلاق والمعاني النبيلة ليؤدي بذلك رسالة على الوجه الصحيح في أي بناء ثقافي وفكري وله دور تاريخي وحضاري ولقد ظل الحديث عن الشعر دائماً محدداً بطبيعة الشعر نفسه، ولقد قيل إن الشعر كالرسم والرسم شعر صامت والشعر صورة ناطقة. ولقد كان لأسلافنا القدم الراسخة والرصيد الضخم والقدح المعلى وكانت بلادنا ملتقى الشعر والشعراء منذ القدم حيث نشأ العشر مع العربي منذ عصوره الأولى وسايره في حياته الفكرية والاجتماعية وسائر جوانب حياته. وفي صدر الإسلام نجد الرسول عليه الصلاة والسلام يستحسن حسان بن ثابت وبقية شعراء الدعوة الإسلامية حيث يقول عليه الصلاة والسلام ما يمنع الذين نصروا الله ورسوله بأسلحتهم أن ينصروا الله بألسنتهم ودعا للنابغة الجعدي حين أنشده: ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا عند ذلك قال عليه الصلاة والسلام (لا يفضض الله فاك) فعاش النابغة أكثر من مائة عام دون أن تسقط له سن. وقال لحسان (أهج يا حسان ومعك روح القدس). ويروى عن عمر بن الخطاب قوله: (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل وما عذب من الشعر) ويروى عن الخليفة الأديب عبد الملك بن مروان حين مات أحد أولاده طلب من أبنائه إنشاد قصيدة أبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه ليتسلى بسماعها ومطلعها: قالت أميمة ما لجسمك شاحبا منذ ابتذلت ومثل مالك ينفع فأجبتها إن ما لجسمي إنه أودى بني من البلاء فودعوا وحيث لم يجد من أبنائه من يحفظ هذه القصيدة قال: والله لمصيبتي في أهل بيتي بعدم حفظ مثل هذه القصيدة أعظم من فقد ابني. إلى غير ذلك من الروايات والأقوال المأثورة ومن يلق نظرة على كتب التراث سيجد فيضاً زاخراً مما رواه خلف الأحمر وأبي عبيدة والأصمعي والمفضل الضبي وابن سلام وأبو عمر بن العلاء وأبو زيد القرشي. ولقد قيل (الشعر ديوان العرب) وقيل (الشعر في المجتمع العربي الأصيل سيادة وقيادة)، ومرت عصور وما يزال الشعراء موضع الاهتمام وأشعارهم باقية فينا نعيدها ونكررها ولقد قيل: ولولا خلال سنها الشعر ما درى بناة المعالي كيف تبنى المكارم وكانوا يصطفون من معاني الشعر أروعها وأجملها كما قيل: خاضوا بحور القوافي وهي زاهرة ما إن بها مأثم يخش ولا جنف ولما وضع الخليل أوزانه قال أحد الشعراء: مستفعل فاعل فعول مسائل كلها فضول قد كان شعر الورى صحيحا من قبل أن يخلق الخليل وكان الشعر سلاحاً من أمضى الأسلحة وكان اعتزاز القبيلة بشاعرها أكبر من اعتزازها بالفارس الذي يحمل الحمى بسيفه ولم يكن الشعر ليبلغ هذه المنزلة لولا احتفاء الناس به واهتمامهم بشأنه. وكان الخلفاء والأمراء يجيزون الشعراء على قصائدهم بالهبات السخية وسمع بعضهم يردد أقوال الشعراء وينشد قول أبي الطيب فقال أحد الشعراء: لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما تجود العطايا واللها تفتح اللها تنبأ عجبا بالقريض ولو درى بأنك تروي شعره لتألها والشعر العربي عبر تاريخه الطويل رصيد ضخم وما زالت الأجيال تردده وتجتره وتمتح من معينه ما زال يؤدي رسالته في خدمة القضايا العربية والإسلامية وسيظل المشكاة التي تضيئ ظلام الحياة والشعراء هم المرآة المبصرة عن الحياة والمجتمع بصور إبداعية يجسدونها آيات من الإبداع الشعر المتميز.