إلى وقت قريب كان لدي اعتقاد بأن الشاعر عبد المحسن الصالح شاعرٌ مُقل ولم يصلنا من أشعاره غير قصيدتين هما: (رثاء ديك) و(الفلاَّح) اللتان عرّفنا بهما الراوي المعروف محمد الشرهان، ولكن وقوع ديوانه بين يدي مؤخراً نسف هذا الاعتقاد وزاد من قناعتي بأن الصالح شاعر فحل وصاحب تجربة شعرية ثرية ومتنوعة وجديرة بالإشادة والتأمل؛ وقد صدّرت الطبعة الأولى والوحيدة من ديوانه في عام 1401ه بتقديم الدكتور عبد العزيز الخويطر الذي كتب مُقدمة طويلة هي أشبه ما تكون بالدراسة النقدية التي تتناول جوانب فنية وموضوعية عديدة من تجربة الصالح. الأمر الذي يلفت النظر في تقسيم ديوان الصالح هو تضمنه لباب حمل اسم (قصائد مدرسية)، وهي كما تُشير مقدمة الباب "قصائد ومقطوعات تدعو إلى العلم ونبذ الجهل والكسل وتتناول الظاهرة التعليمية في ذلك الوقت المبكر"، وأول ما يمكن ملاحظته في هذه القصائد هو لجوء الشاعر فيها إلى أسلوب السرد القصصي الساخر وسعيه الحثيث نحو تنويع أسلوبه فيها خشية الوقوع في التقريرية التي قد تفرضها طبيعة الموضوع الذي يُعالجه في هذا الباب. أمّا أغرب ما يُصادفه المطلع على الديوان فهو وجود قطعة نثرية من الممكن أن نُسميها (قصة قصيرة) عنوانها: (محاورة بين شخص متعلم وآخر جاهل)، وفيها يدور الحوار بين مُتعلم وجاهل يلتقيان مُصادفة حين كان الجاهل يبحث عن حماره الضائع، ويحرص الشاعر في هذه القصة على استخدام أسلوب المفارقة لتوضيح خطر الجهل على عقل الإنسان، فإجابات الجاهل -الذي ضاع حماره وأضاع عقله- تُشبه الهذيان من حيث عدم قدرته على تمييز الأسماء والأماكن والأحداث التي عايشها، فعندما يسأله المتعلم عن تاريخ اليوم الذي تقابلا فيه يمتنع عن الإجابة مُتعذراً بأنه ليس من أهل البلدة ولا يمكنه معرفة أيامها أو شهورها، ويُجيب على السؤال عن تاريخ ميلاده بالقول: "تقول جدتي إن أبوك يقول إني مولود على رأس الهلال بالنصف من رمضان عقب العيد بثلاثة أيام.."..! يلجأ الشاعر أيضاً في (مساجلة شعرية) إلى أسلوب الإقناع مزاوجاً بين اللهجة العامية التي تخرج بركاكة على لسان الجاهل واللغة الفصحى التي يتحدث بها المتعلم بطلاقة لإقناع الجاهل بأن الإنسان الجاهل يتماثل مع (الحمار) في بلادته وعدم استغلال إمكاناته العقلية، وفي ختام المساجلة بينهما يُعزيه المُتعلم في موت عقله بعبارة جميلة يقول فيها: (أحسن الإله لك في عقلك العزا)!، ونلاحظ بأن صورة الجاهل في معظم القصائد التي يتناول فيها الشاعر موضوع العلم والجهل لا تخرج في الغالب عن أربعة أشياء: (الشيطان) وهو مَن يُغري الإنسان بالكسل ويُزين له إضاعة الوقت (كما في قصيدة بين سويلم والشيطان)، أو (الأعمى) التائه أو (الحمار) الغبي أو (الثور) البليد الذي لا يتناسب حجم ما يتعاطاه مع حجم ما يُعطيه..! ويحرص الشاعر دائماً على تصوير الجاهل والجهل في أقبح صورة، فالجاهل كما يصوره في قصيدة (نصيحة ذئب) شخص أكثر (ميوعةً) من بنت السلطان، يحسب نفسه "نصف الدنيا" من شدة كِبره وإعجابه بنفسه وهو في حقيقة الأمر (برميل فارغ)، عقله (حجر) صلب وقلبه (قطعة جليدية) خرساء: الكسلان حمارٍ ثاوي ما يدرك بالدنيا شان علاماته وجهه فاهي وإلى مشى فيه وْهَان وإن جاء يدرس كنه ينعِس من موت الهمه كوبان أو بليدٍ ما به روح كنه برميلٍ فرغان جسمٍ جامد حسٍ خامد ودماغه مثل الصَّوان وفواده من ثلجٍ خالص عمودٍ فوقه خلقان وفي قصيدة (وصف الجهل) يصور الصالح الجهل في هيئة كائن بشع ودميم له بطن ضخم تملؤه القاذورات والأوساخ، وهذا الكائن القبيح يتيه في الطرقات بسبب مسح عينيه وعدم قدرته على تمييز الطريق الصحيح، ويدعو في ختام هذه القصيدة لتبديد ليل الجهل بشمس العلم والمعرفة: تكفون يا اهل العزم والحزم والحجا جلّوه عنَّا وابعدوا منفاه تراه مثل الليل يجثم على الملا والعِلم شمسٍ نورها يمحاه ويستخدم الشاعر أيضاً لتنويع أسلوبه شكل (الألفية) من خلال قصيدتين هما: (ألفية المُتعلم) و(ألفية الجاهل)، وتأتي الأولى على لسان شخصية (سويلم) التي اخترعها الشاعر لتُعبر عن حُب العلم وفضله، في حين تأتي الثانية على لسان صديقه البليد الذي يؤثر الراحة والكسل على الاجتهاد وطلب العلم، يقول سويلم في (ألفية المتعلم): تا تركت الهون عني والكسل والتعب للعلم عندي العسل عن غرامي بتحصيله لا تسل مهتوي والمهتوي باسه شديد ثا ثمار العلم دايم يانعات مير وين أهل العقول الصاحيات والقلوب اللي بقطفه راغبات ما حضي به غير من رايه سديد جيم جا وقتٍ به الجاهل يضيع لو كثر ماله فهو لازم وضيع حِسبته بالمعرفه حسبت رضيع وزن عقله كثر عرفه ما يزيد وفي ديوان الشاعر عبد المحسن الصالح العديد من القصائد الجميلة التي يتمحور اهتمامه فيها حول موضوع العلم والمعرفة، وتدل على ريادته وإيمانه العميق بأهمية دور الشعر في عملية التنوير ونشر المعرفة في مجتمع كان الجهل يسيطر على نسبة كبيرة من عقول أبنائه، وقد حرص الشاعر فيها على تنويع لغته بين لغة الإقناع تارة ولغة السرد والتشويق تارة أخرى، مستعيناً ببحور رشيقة ولغة سهلة وساخرة استطاعت انتشال أشعاره من لغة الخطابة والوعظ المباشر. الشرهان