.. هذه القصة التي قد يشاركني القراء الإعجاب بها قد حدثت في زمننا المعاصر مما يجعل الاقتداء بها سهلاً علينا ميسوراً لنا في مثل هذه المواقف أن نتحلى بمثل ما جاء فيها من مروءة وسخاء، مع علمي بأن تراثنا السابق على عصرنا زاخر بأكثر من هذا.. وأروع منه نبلاً، وكرماً. تحكي لنا القصة أن رجلاً قال: قف أيها القصاص.. لا تمسك سيفك لإقامة الحد على هذا الرجل. أين أهل القتيل؟ أمهلني قليلاً لأتدبر هذا الأمر.. هل بالإمكان فك رقبة هذا الرجل؟! قيل له نعم.. لو دفعت الفدية. قال أنا سأدفع المبلغ المطلوب فدية عن هذا الرجل، مع أنه لا يعرف مقداره.. @@ @@ @@ لحظات فوق الخيال، وفوق الاحتمال.. شعور مهيب.. وفوق الوصف كلام، معبر.. إنها حقيقة حدثت.. وليست قصة اخترعت. @@ @@ @@ ذهب صاحبها إلى مقر إمارة منطقة الرياض لمقابلة صديق له، فأخبروه أنه ذهب إلى ساحة العدل؛ فانطلق الرجل مسرعاً باحثاً عن صديقه، دون أن يدري شيئاً عن الحدث. @@ @@ @@ وهناك فوجئ بتجمهر الناس، وبينهم صديقه، فسأله: ما قصة هؤلاء المتجمهرين، فقال له صديقه: إن رجلاً من قطر عربي شقيق قتل رجلاً وأهل القتيل يطلبون منه فدية وهو لا يملك منها شيئاً لذا فإنه سينفذ فيه الحكم الشرعي بالقصاص.. فانطلق الرجل الكريم قائلاً: أنا سأدفع عنه الفدية المطلوبة. ونهض لذلك دون أن يعرف اسم هذا الرجل، أو أي شيء عنه. كم هي الفدية؟ قال الأهل إنها خمسمائة ألف ريال؛ فقال لهم: انتظروني بعض الوقت لأحضر ما تطلبون وسرعان ما ذهب الرجل إلى مصرف قريب من ساحة العدل، ومعه أحد المسؤولين ليضمنوا صدق قوله، وصحة مفاجأته لكن المصرف كان كعادته في الصباح مزدحماً بالعملاء وسوف يتأخر كثيراً. استأذن الرجل من مدير المصرف، وأطلعه على الأمر؛ فقام المدير بصرف المبلغ نقداً وفوراً. حمل الرجل الكريم المبلغ إلى مكان القصاص، وسلمه لأهل القتيل عداً ونقداً، فدية عن هذا الذي وجب عليه القتل. الناس مبهوتون.. الجميع في ذهول ويسألون هل هذا الرجل قريب له.. أو موظف عنده.. أو يعرفه.. أو يريد حاجة منه؟! إنه لا يعرفه، لكنها المروءة.. لكنها الشهامة النبيلة، لكنها عظمة الرجال أهل المروءات والنجدات.. أصحاب القلوب الكبيرة، والنفوس العظيمة. موقف فريد.. حدث سيبقى حديث كل من شاهده.. مروءة ما بعدها مروءة قام بها هذا الرجل. انصرف الناس وقد ألجمهم الأمر.. ساروا مشدوهين من هذا التصرف النبيل، من ذلك الرجل صاحب المروءة التي بهرت الحاضرين. أتتكرر هذه المروءات؟! أهناك مثل هذا الرجل في مثل هذه الأوقات؟ هذا الرجل صاحب هذا الموقف الذي ربما يندر حدوثه من عامة الناس، وبهذه التلقائية لم يتحدث عما فعل - ولكن الأعمال العظيمة تحكي نفسها على ألسنة من شاهدوها. @@ @@ @@ لقد حدثني صديق لي بهذه القصة التي يعرف هو بطلها، فرجوته أن أتعرف عليه، فرتب لي لقاءً به، وقابلته لأول مرة، وسألته عن سر هذا الحدث ودوافعه، فذكر متواضعاً أنه لا يريد الحديث عنه، لأنه إنما فعله خالصاً لوجه الله، لا يريد من أحد جزاءً ولا شكوراً. قلت له: لا تحدثني أنت.. بل دعني أحدثك بما سمعت: فسردت له القصة كما سمعتها، وقلت له رجاءً: هل هذه الرواية صحيحة دقيقة؟ قال: ما دمت مصراً على معرفتها.. فإنها قد حدثت بفضل الله، وإني فعلتها لوجه الله.. وهي أحب ما فعلت إلى نفسي، وأكثر ما أسعدني طول حياتي شعور بأنني فعلت شيئاً لعل الله يتقبله مني، ويضعه في موازين أعمالي، ولن أتردد في فعل مثله أبداً ما قدرني عليه ربي، بعد أن شعرت بحلاوته وطلاوته. @@ @@ @@ هذا الرجل صاحب هذه النخوة.. والذي كانت مقابلتي له هي الأولى والوحيدة هو خالد بن محمد بن سالم العنزي عرفت أنه رجل أعمال ناجح يؤثر الصمت. وفي جلوسي معه كان قليل الكلام، وفي غاية التهذيب وجم التواضع. فماذا يعني هذا السلوك الكريم؟ إنه إنقاذ لحياة إنسان أوقعه الشيطان في خطأ فارتكب فعلته. @@ @@ @@ لكن ذلك الرجل الذي عاد إلى موطنه بعد إنقاذه تغيرت حياته، وحسن سلوكه. لقد عرفت ذلك من المنقذ الذي قام بدفع الفدية وقال لي: إن المفديَّ وأهله استطاعوا أن يتوصلوا إلى عنواني وصاروا على صلة بي وهم من أبلغوني بصلاح ذلك الرجل واستقامة أحواله. @@ @@ @@ أما أني خصصت هذا المقال عن هذه القصة فلأني أرغب في نقل الحديث عن هذه المروءة عملياً لا نظرياً؛ نقرأه ليكون قدوة نسلكها ونشيعها في حياتنا.. وإني لعلى ثقة أن كثيراً من المواقف التي تتجلى فيها أسمى معاني المروءة تحدث كل يوم.. فحياتنا - والحمد لله - حافلة بمثل هذا الإنسان، ومثل هذه المواقف: والمنصف منا يكفيه أن يتابع ما يكتب في الصحف عن هؤلاء الذين يقومون بدفع الفدية مع ضخامتها، وإنقاذ أرواح الناس بها؛ مثلما يتفضل به قادتنا، وولاة أمرنا، والمحسنون من القادرين من أبناء مملكتنا في حالات كثيرة.. وما يحدث أيضاً من عفو كريم لأهل القتلى في اللحظات الحاسمة لتنفيذ القصاص. @@ @@ @@ ولكني أفردت الحديث عن هذه الحادثة - لا لضخامة المبلغ المدفوع فيها؛ ولكن لأنها حدثت مفاجأة تلقائية، دون تدبير أو تفكير مسبق، أو مساع لها.. فقد أراد الله لهذا الرجل حياة جديدة.. وأراد الله لهذا المنقذ أجراً جزيلاً.. وذكراً محموداً.. ولتكون حافزاً لفعل الخير الكامن في نفوسنا جميعاً.. @@ @@ @@ ومن أحدث ما هو عجيب في هذه الأيام ما حملته الأنباء عن تبرع أحد أهل الخير بمبلغ مئة وثلاثين مليون دولار، مع إصرار منه على ألا يعرف الناس اسمه أودعها بنك التنمية الإسلامي لتكون غوثاً عاجلاً لمنكوبي بنجلاديش.. إنها بحق فزعة إنسانية، تجعله ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله - بمشيئته وفضله ونعمته. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها. اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.