في رواية الأوصياء الصادرة حديثا للقاص فهد المصبح نجد حكاية الحارة.وعذابات الفقد لبطل الرواية (شبيب) الذي يتوهم بوجود الأوصياء لكنه يظل قادرا على الانفكاك من سطوة رجالات الحارة ليسطو عليه العشق ويهلكه. الرواية في بعدها الزماني والمكاني تدون سيرة مكان وتحتفل بمسميات تلك المرحلة التي هي زمن سرد الحكايات. رواية (الأوصياء) هي نتاج تراكم سردي للقاص المصبح الذي يضيء لنا كواليس روايته في هذا الحوار لثقافة اليوم : @ عنوان الرواية يحمل الأوصياء وقد نفهم من سياق السرد..أن فعل الوصاية يتجه نحو شخصية (شبيب) الذي يمثل الفرد الضائع في تلك الحارة والجميع يحاول أن يفرض وصايته على هذا الكائن المعذّب.لكن لم أجد وصاية يمارسها أهالي الحارة على شبيب. فهو كائن مستقل يختار خياراته بحرية..فكيف تفسر لنا دلالة العنوان في الرواية؟ - في مثل هذا المجتمع تنشأ الوصاية وتبرز قبضة الأوصياء ومن يتمرد عليها لا يجد أمامه إلا النبذ والتهميش في أهون الأحوال وإلا قد يتعرض لما هو أكثر وتستمر الوصاية على المجتمع برمته إلى ما لا نهاية فمن نجا من المحسوسة كانت له الخفية بالمرصاد ولا شك أن الجهل منبت خصب للوصاية وداعم قوي للأوصياء، وشبيب كان يريد أن يكون صاحب وصاية فلم يجد إلا قلب منور الذي تعذب وعذب به. @ الرواية أعادت لنا نكهة الحارة..وقدمت أطيافها دون تجميل.وان كان خلق الحارة الروائية يحتاج مخيلا سرديا يستطيع تقديم شخوص لهم أدوارهم المتعددة نجد أن روايتك تحمل هذه التعددية.ولكن هؤلاء الشخوص لم يستمروا طويلا. فجاء مرض الطاعون ليقوم بالقضاء على اغلب تلك الشخصيات. هل كان الموت الجماعي لتلك الشخصيات حيلة سردية..ليستفرد شبيب وشخصيات محدودة بمساحة السرد؟ - بالفعل الشخوص في الرواية أقلقتني كثيرا حين تظهر بقوة على السطح مغيبة دور شبيب فعمدت إلى إضعافها بما استطعت ورغم الموت بالوباء إلا أن بعضها وأقواها صمد حتى نهاية الرواية ولكل واحد منهم شخصية مستقلة تقوم برواية منفردة كرشيد شيخ الحمّارة وساري صديق شبيب لكنني جعلت شبيب بطل الرواية مرتبط بالمكان وهو حارة الفراوي، أما الشخوص فجعلتها مرتبطة به. @ أخذت الرواية في بدايات احداثها ملامح الاسطرة وذلك في حكاية الحفرة التي تم ردمها..إلى أن الأحداث بعد ذلك ارتدت إلى حالتها الطبيعية.. وتجرد شبيب من إيحاء أنه مخلوق أسطوري إلى فتى يعيش عذابات الفقد.هذا التباين في مسار الاحداث كيف تنظر إليه؟ - لم تكن الأسطورة هاجسي في يوم ما والحفرة رسخت أسطورتها في الأذهان قبل كل شيء واتيت أنا لنبشه بشيء من التخوف والحذر، والعمل في نظري الذي يقوم على الأسطورة هو فاقد لعنصر الشد والتشويق الطبيعي فيعمد الكاتب اليها ليخرج العمل بشخوص اسطورية تبعد كثيرا عن الواقع لتزين واقعا لن تجده إلا في الأحلام أو الكتب القديمة. @ شبيب الشخصية المحورية في الرواية منهك بعذابات الفقد..وتم ضخ ملامح من الكرامات في حضوره السردي..أيضا هو مستجلب من اطياف سردية بائدة أو حتى شخصيات لها حضورها التاريخي. هذه الشخصية بكل عذاباتها أخذتنا إلى حالة من التعلق الوجداني.يهمني أن تتحدث كيف تم بناء هذه الشخصية؟ - شخوص الرواية حقيقية في زمن مر ليس بالضرورة تعايشها في وقت واحد وهناك البعض منها لا يزال على قيد الحياة، والشخوص أوجدت أمامي مشكلة في الأسماء فغيرتها بعد أن أخذت مني جهدا وأصابتني بعنت آخر الرواية فترة طويلة وشبيب الشخصية المحورية عكسها تماما بنيته من الخيال في واقع ليس غريبا عنه ليبقى بعيدا عن المساءلة. @ إذا ما تم تجاوز شخصية (أم شبيب) وبحضورها الهامشي والتي اختطفها الموت مبكرا..لا نجد شخصية نسائية في الرواية سوى شخصية(منّور).في تصوري هذا يخلق حالة من عدم التوازن في أحداث الرواية..هل تجد الاستكفاء بشخصية نسائية واحدة أمرا مناسبا لعوالم روايتك؟ - لا يشترط في العمل الروائي أن يتساوى عدد النساء بالرجال والأحداث قد تكتفي بشخصية واحدة وبالنسبة للأوصياء هناك أكثر من شخصية نسائية قد لا يلحظها القارئ لكنها موجودة تؤدي دورها حسب ما هو متاح لها في ذلك المجتمع فمثلا هناك زوجة الدهان وزوجة حمدان الدوش التي انتحرت وأخت بوعامر ومحبوبة مرعب الديك شاعر الحارة وزوجة جاره بوراشد وزوجة ساري البدوية وأمه وأم إمام المسجد البوديري وزوجة المطوع معلم الصبيان ونسوة الحارة لكنهن لا يظهرن بجلاء على الساحة بحكم المجتمع وتقاليده لذا لا أجد خللا في ذلك. @ شخصية منّور تستعيد دور امرأة العزيز..وفي ظل تمنع(شبيب) الشخصية الغاوية وذلك قبل أن يهلك عشقا.هذا النموذج الأنثوي الغاوي ليس مبتكرا..ولكن وإن كان لها مساحتها السردية..إلا أنها لم تستنطق بما يكفي..هل ترى الأمر كذلك؟ - منور ربما لم تستنطق نعم ولكنها خلفت للقارئ أسئلة ربما يقوم هو ببلورتها على لسانه مما لم تقله منور رغم أنها قالت لنا بما يكفي بجرأة وتحد للرجال الذين غدروا بها وأرادوها للمتعة. @ عيسى زوج منّور لا أجده طيبا تماما. لم يكن بتلك السذاجة ولم يكن حرصه على استضافة شبيب وادعائه بأن شفقته عليه من اجل مساعدته في الحقل.عيسى كان يتواطأ على ما يحدث في منزله.هل تمرير هذا الإيحاء بتؤاطوه صحيحا؟ - لا أبدا ليس عيسى متواطئا لفعل شائن إنما قد يكون ولعه بالذرية أتاح لشبيب أن يبين هكذا معه وكان ينوي أن يزوجه بعدما يتخذه ابنا له لحرمانه من الذرية وهي أحلام وردية لعجوز فاته كل شيء ولم يبق أمامه إلا شبيب ومن الشائع في مثل تلك المجتمعات أن المنحرفة أو من تعرضت حياتها لقصة أو حدث مريب أن يستر عليها بتزويجها من رجل لا تقبل عليه النساء لكبر سنه وهو تصرف اخرق إذ قد يؤدي إلى ما هو أعظم لكن الأحداث تسجل أن البيت يصلح بطريقة ما وكثيرا ما تؤوب المرأة إلى رشدها وتقنع بما قسم لها. @ بما أن زمن الرواية زمن بعيد..نجد السارد يتصيد الفرص ليدّون بعضا من ملامح طقوس المجتمع الأحسائي في تلك الفترة.هل كان لديك هاجس ما في تأريخ تلك المرحلة في حالتها الاجتماعية في نصك الروائي؟ - ربما يكون هذا الهاجس هو الدافع الأكبر للرواية فكنت أريد توثيق تلك الأماكن والاحداث والعادات بنقلها من الذاكرة الشفهية إلى التدوين على الورق فكان ذلك، أردت أن أدون الإحساء بما عرفت وتشتهر به من النخيل والعيون والأسواق وبعض الطقوس كلعبة الزار والعراك بين الحمير أيام العيد وأظن أن بالي مرتاح أكثر من السابق بعد توثيقها في رواية مكانية في المقام الأولى بشخوص عبرت بذاكرة مفقودة وجهل عام في الغالب. @ قدمت لنا الرواية شخصية (ساري) الذي يحمل مرجعيته في اللون.هو نموذج مختلف عما هو في ميمونة وجاهلية. لم يكن لساري مشكلة مع اللون لم يحمل عبئا لهذه المسألة..هذا التصالح من (ساري) مع اللون هل يحمل دلالة ما؟ - ساري الأسمر النحيل وقف اللون ضده في زواجه لكنه وفق في فتاة من البادية وقسماته جميلة رغم سماره، وظروفه وجدت في زمن الفقر والفاقة وندرة الاعمال وشح القرش كانت آماله في زوجة تستره ويسكن عندها في زمن مليء بكل شيء إلا الخبث. @ ان كانت شخصيات الحارة تعاملت مع وباء الطاعون بالبكاء والذهول من فواجع الموت.. نجد شخصية (أبو علي) تأخذ ردة فعل مغايرة بالضحك القاتل. هذه الشخصية محببة هل تشعر بأن أسلوبها في الضحك والتعاطي مع الاحزان بتلك البلادة يحمل ترميزا ما؟ - بوعلي شخصية هامشية في الحياة مع أن البيوت تذكره في سمرها وأحاديثها، شخصية فيها من اللطف والبراءة حد الإشفاق عليها لولا تلك الضحكات المتشنجة التي تصدر منه فتميت من حوله ضحكا وكثيرا ما يقلدونه فقط ليضحكوا ويحسبوه صندوقا من الضحك العميق المدمع للعيون والمؤلم للأمعاء وهو ليس بليدا بل بسيط حد السذاجة ومطحون بهموم وأحزان لم تفلح في أفول شمس الضحك عنه. @ اعرف أن إصدار الرواية صاحبه تردد وهواجس بعدم نشر الرواية..وأعرف أنك عشت مع أبطال الرواية في علاقة حميمية إلى درجة الالتقاء بها في الحلم. الآن كيف ترصد انطباعك عن تلك الشخصيات بعد أن صارت الرواية في متناول يد المتلقي؟ - عشت مع شخوص الرواية حياة طويلة حتى ملوا هم من ترددي في نشر الرواية كانت لقاءاتي بهم رواية أخرى كدت أن أزج بها في الرواية لولا خوفي من تأخر العمل أكثر كانت حياة فيها من المرح والترح والحزن والسعادة كانوا أحيانا يخيفونني عندما ألمسهم بشغبهم أو أحادثهم شفاها وسيبقى حق كل واحد محفوظا في ذاكرتي ودفاتري لعله يظهر ذات يوم في عمل آخر ربما مستقل عن الأوصياء. كنت في البدء العب معهم لعبة السرد وتحولت إلى أسر وانتظار ظهورهم ومحادثتهم عدا البطل شبيب الذي علاقتي به فنية صرفة ولم تكن فيها حميمية لأنه اقرب إلى الخيال من الواقع وهو ما قصدته أن لا يلحظ احد من عاش أو عرف المكان أن يشير إليه أو يعرفه من بين أبناء الحارة ومنور أقوى الشخصيات عندي اعرفها جيدا واعرف قوتها وألغازها التي لا تنتهي وعندما يقرأ المتلقي العمل سيشهد بتجرد على مدى نجاحي في إبرازهم أو فشلي وكلا الأمرين لا أكترث لهما كثيرا بعدما شبعت حد الثمالة من شخوصي وتعرفت عليهم في الواقع والحلم، والحكواتي بوتركي سيجمعهم في عمل آخر سأكتبه وهو يروي حكاية الحارة بطريقته الخاصة فإلى ذلك الحين سأستمتع من أسر الرواية الذي كبلني سنين طويلة.؟ ولن أنسى الإخوة الذين ساعدوني في ظهور العمل أن اشكرهم واخص بالشكر الروائي محمد المزيني.