في سنوات الفقاعة، أواخر ثمانينات القرن العشرين، تدفقت الاستثمارات الأجنبية بكثافة إلى الاقتصادات سريعة النمو في جنوب شرق آسيا، لدرجة أن شركة ماتسوشيتا اليابانية العملاقة، كانت مسؤولة وحدها عن 3 % من الناتج المحلي الإجمالي في ماليزيا، فقد كانت تصدر الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية إلى العالم من مصانعها في ماليزيا، وفيما كانت الشركات اليابانية تتوسع في صناعة السيارات في تايلاند، انهمكت شركات التجارة الكبرى مثل ميتسوي، وميتسوبيشي، في استيراد النفط والغاز من إندونيسيا إلى اليابان، ولكن، بحلول التسعينيات الميلادية، أدى صعود الصين كقوة تصنيعية ضخمة إلى توسيع الفجوة بينها وبين جيرانها في جنوب شرق آسيا. ولكن، كيف فقدت بعض اقتصادات النمور الآسيوية زئيرها؟، هناك عدة مؤشرات، من بينها هبوط معنويات الأسر التي لم تعد تعتقد أن القادم أفضل، حيث خسر الكثيرون أموالهم في أسواق العقارات والأسهم، ولم يعد بوسعهم كسب شيء يذكر من ودائعهم المصرفية، ولم يعد الطلب المحلي قوياً بالقدر الكافي لاستيعاب فائض الإنتاجية، وبدلاً من ذلك، أصبح التصدير هو المحفز الأساسي للنمو، في المقابل، باتت الصين أكثر ميلاً للتنافس مع اقتصادات دول جنوب شرق آسيا بدلاً من دعمها، وأبرز مثال على ذلك تايلاند، فصناعة السيارات التي كانت تنتج مليوني سيارة سنوياً، وتمثل 12 % من الناتج المحلي الإجمالي التايلاندي، و11 % من إجمالي صادراتها، وتوظف مليون عامل، أو 16 % من القوة العاملة، تبدلت تماماً، حيث انهارت المبيعات عند أدنى مستوى في 14 عاماً، مما أدى إلى حلقة مفرغة سلبية، تمثلت في تهاوي صادرات السيارات التايلاندية، أمام القدرة التنافسية العالمية الفائقة لقطاع السيارات الصيني. أما في إندونيسيا، فقد توقف الزخم المحلي، وانخفضت دورة الائتمان، وانكمش الطلب الاستهلاكي، من جهة أخرى، يتزامن التحدي الذي تفرضه الصين على آسيا مع جهود الإدارة الأميركية الجديدة في تفكيك سلاسل التوريد العالمية، وإعادة الإنتاج إلى الداخل، وفقاً لشعار ترمب الأثير "أميركا أولاً"، وعلاوة على ذلك، تواصل أسعار الفائدة الأميركية المرتفعة دعم الدولار أمام باقي العملات الآسيوية، مما يثني معظم البنوك المركزية الإقليمية عن خفض أسعار الفائدة لتحفيز الإنفاق والنمو، وفي الربع الرابع، هبط إجمالي الاحتياطيات المتراكمة في آسيا بمقدار 48 مليار دولار، في حين تراجع صافي تدفقات المحافظ الاستثمارية في عام 2024 بأكمله إلى 24 مليار دولار، انخفاضاً من 62 مليار دولار في عام 2023. مما لا شك فيه، أن النمور الآسيوية تواجه اليوم هجمات مرتدة خطيرة للغاية، تتمثل في شكل زيادة الرسوم الجمركية على صادراتها النهائية المتجهة إلى الولاياتالمتحدة، وضعف الطلب الصيني على صادراتها الوسيطة، ومع ذلك، لا يمكننا أن نقرر أن دول جنوب شرق آسيا بأكملها قد فقدت ديناميكيتها الحيوية، حيث تظل بعض أجزاءها في حالة فوران اقتصادي، وعلى سبيل المثال، فإن لاوس، الدولة غير الساحلية التي طالما واجهت صعوبات في اجتذاب استثمارات أجنبية بسبب افتقارها إلى الموانئ، تبيع الآن بكثافة الطاقة الكهرومائية لجيرانها، بينما استفادت ماليزيا من قربها الحدودي مع سنغافورة، فوقعت معها اتفاقية لتطوير أول منطقة اقتصادية خاصة عبر الحدود في جنوب شرقي آسيا، والتي تضم 16 قطاعاً نوعياً من عينة الكهرباء، والإلكترونيات، والتصنيع، والرعاية الصحية، وإذا قدر لهذا التكامل الاقتصادي أن ينجح في استقطاب المزيد من الشركات متعددة الجنسيات، فسوف يصبح نموذجاً استثنائياً بامتياز، في منطقة تتعطش للمزيد من الاستثمارات الجريئة.