إجراءات تركية جديدة لتسهيل عودة اللاجئين السوريين    لبنان تقدم شكوى لمجلس الأمن احتجاجا على الخروقات الإسرائيلية    نائب أمير تبوك يطلق حملة نثر البذور في مراعي المنطقة    منتدى المدينة للاستثمار.. يراهن على المشروعات الكبرى    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    مدرب البحرين مازحاً: تمنياتي للعراق التوفيق في كأس العالم وليس غداً    سفير المملكة لدى أوكرانيا يقدّم أوراق اعتماده للرئيس فولوديمير زيلينسكي    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    225 مليون مستفيد بجمعية هدية الحاج والمعتمر    مسفر بن شيخة المحاميد في ذمة الله    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    فرصة لهطول الأمطار على الرياض القصيم الحدود الشمالية والشرقية    من رواد الشعر الشعبي في جازان.. عبدالله السلامي    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    الترفيه تعلن عن النزالات الكبرى في فعالية UFC ضمن «موسم الرياض»    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    عمان تواجه قطر.. والإمارات تصطدم بالكويت    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    الصقارة.. من الهواية إلى التجارة    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    إعداد خريجي الثانوية للمرحلة الجامعية    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    محمد بن سلمان... القائد الملهم    البرازيلي «فونسيكا» يتوج بلقب بطولة الجيل القادم للتنس 2024    26 مستوطنة إسرائيلية جديدة في عام 2024    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    استدامة الحياة الفطرية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    سعود بن بندر يلتقي مجلس «خيرية عنك»    خادم الحرمين يرعى منتدى الرياض الدولي الإنساني    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    لتعزيز الروابط النيابية وتوعية الجمهور.. تدشين الموقع الالكتروني لجمعية النواب العموم العرب    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمة فاجأت كبار اللاعبين وصغارهم . سخونة النمو الاقتصادي وضعف المنافسة وتفشي الفساد وراء المشاكل الاقتصادية في آسيا 1 من 3
نشر في الحياة يوم 13 - 03 - 1998

على رغم اختلاف خصائص الأزمة بين دولة آسيوية وأخرى، تبقى السمات العامة واحدة: سخونة عالية في معدل النمو الاقتصادي، نظم مالية تنوء بحملها بسبب غياب التطوير فيها، وتراجع قدرة الصناعات على المنافسة، فضلا عن تفشي الفساد الاداري، والعلاقات العشائرية بين الدولة والأعمال.
في النظام المالي العالمي الجديد، كما في القديم، تلعب أسعار الصرف دوراً رئيسياً في تحديد مقدرات البلاد، وكذلك ارباح الشركات. فالعملة العالية القيمة، سواء بفضل النمو الصناعي الكبير في الدولة المنتمية لها، أم بسبب السياسة النقدية التي تتحكم بها، تخفف من قدرات الشركات على المنافسة في الأسواق التي تزداد اقترابا من بعضها الى حد التوحّد. والدول التي تحافظ على سعر صرف عال مفتعل لدواع تتعلق بالسمعة والكرامة، انما تحكم على تجارتها بالكساد، وعلى صناعتها بالاضمحلال.
غير أن ارتفاع اسعار الصرف أو انخفاضها لم يعد مرهونا بالسياسات النقدية أو السياسية فقط. اذ أن هناك حركة رأس المال حول العالم والتي تزيد في أسواق الصرف على 1300 بليون دولار يومياً حسب احصاءات عام 1996، مقارنة ب 190 بليوناً يومياً عام 1986. هذه الأموال لم تعد تنتقل بوسائل الشحن التقليدية ولا بالسندات الورقية، بل بسرعة الضوء على شكل أعداد رقمية الكترونية لا تعترف بالدول ولا بالقوانين أو رجال السياسة ولا بالمطابع. انها القوة الرئيسية التي تحتل في العالم الحديث أعلى مراكز السلطة وتوجه الأسواق، فتعوّمها أو تغرقها. وإذا كان الناخبون يصوتون كل أربع أو ست سنوات، تعطي الأسواق المالية صوتها المكلف، أو المربح، كل دقيقة. تتأثر الأسواق بالسياسة قليلا، وتؤثر فيها كثيرا. والأسواق المالية تنمو بسرعة تجعل قدرة الحكومات والمؤسسات على تنظيمها ضعيفة. بل ان رجال السياسة - وحتى وزارات المال في دول عدة - يتأخرون في مواكبة سرعة تغيرها. كما أن تقلباتها تتم في العصر الحديث بسرعة خرافية، تختصر معها الحقب الى أيام، أو ساعات وأحيانا ثوان. فمضاعفات الحدث المالي في بورصة نيويورك تصل الى طوكيو قبل وصول رحلة جوية، وتنتقل لتلف العالم بسرعة البرق. وفي طريقها تنهمر منها أمطار راوية، أو فيضانات تغرق دولاً. وفي عصر السرعة هذا، لا تأتي المصائب، أو المكاسب، فرادى، بل تتجمع من كل حدب وصوب لتتفجر العاصفة في أسواق عالمية عدة في آن.
وبفضل تكنولوجيا المعلومات التي تلف العالم بواسطة أجهزة كومبيوتر تزداد سرعة وكفاءة، تتقارب الأسس التي يبني عليها المحللون قراراتهم، وتتشابه القرارات. وهنا لا ينبغي التقليل من مخاطر هذا التقارب على رغم معرفة ايجابياته، إذ لا يجوز أن تغيب المعطيات التي تبنى عليها القرارات الاستثمارية الحساسة عن أعين المستثمرين والحكومات في دول العالم الثالث كما في الدول المتقدمة صناعيا. المخاطر تتمثل في أن الرأي المهيمن والسائد قد لا يكون دائماً الرأي الصائب. لكن الغالبية تتبع الرأي السائد بطريقة القطيع، حتى ولو قاد الى الهاوية بعدما يمرّ بمراع خصبة.
وهذا ما حدث في آسيا عندما انساقت المصارف والمستثمرون الاعتباريون والأفراد وراء الكسب الأصفر القادم من تربة بكر. آسيا تتعملق، فليكن للجميع نصيب من رخائها. تدفقت الرساميل وعجلت في النمو وفي الطفرة المالية والصناعية. لكن الدواء كان هو الداء. إذ أن هذه الأموال الخاصة التي تسمى بالأموال الساخنة، هي التي نزحت عنها بالسرعة نفسها التي تدفقت فيها بعدما أفل نجم نجاحها.
كان الخوف الرأسمالي في الخمسينات والستينات من سقوط الرأسمالية في بلدان جنوب شرقي آسيا على يد الزحف الشيوعي بعد سقوط فيتنام، ضمن ما عرف بظاهرة التداعي المتوالي لاحجار الدومينو. لكن ما حدث عام 1997 هو ان التداعي وقع في المنطقة على يد الرأسمالية نفسها عندما زحفت محدلة العولمة المالية على بلدان المنطقة وطحنت قدراتها.
يقول رئيس البنك الدولي جيمس ولفنسون في تقويم أخير للأزمة الاقتصادية التي اجتاحت المنطقة كما يجتاح اعصار النينيو العالم على غفلة: "لم يحدث في التاريخ أن انتجت مجموعة من الدول ما انتجته الدول الآسيوية الصاعدة خلال سنوات الطفرة منذ أوائل العقد. فبفضل التنمية السريعة في كل من كوريا الجنوبية وماليزيا وتايلاند، تم القضاء على الفقر المدقع للطبقة الأفقر في المجتمع. فيما اقتربت دول اخرى كأندونيسيا من ذلك الهدف".
ويعتقد ولفنسون أن اقتصادات المنطقة لم تكن هشة كما قيل عنها بعد التدهور، بل ان طفرتها تحققت "بفضل دعامات اقتصادية راسخة على شكل نسبة ادخار مرتفعة، والتزام قوي بتطوير التعليم، واتباع سياسات مالية سليمة، وانفتاح على الخارج" في البنية الصناعية وغيرها.
لكن الأزمة برهنت ان البنى السياسية والمالية وتركيبة الشركات لم تتناسب مع مقتضيات الاقتصاد الآخذ في العولمة بشكل سريع. اذ يرى ولفنسون أن القطاعات المالية الضعيفة، والشركات المنعّمة، والافتقار الى الشفافية في المعلومات عن النشاط الاقتصادي والمالي، والضعف الذي تعاني منه حركة ادارة المتوجبات المالية الخارجية، كلها اوصلت الى حالة من سوء التوزيع في الموارد، ومن ثم الى تراكم ديون قصيرة الاجل في القطاع الخاص.
احجار الدومينو
وكانت العوارض ضخمة الى حد لم يستطع النظام المالي والاقتصادي في الدول المعنية تحملها، فجعلته فريسة لتدهور خطير في الثقة. والثقة هي كل شيء تقريباً في النظم المالية والاقتصادية. ولا شك في ان الثقة انعدمت أولا في تايلاند، الحجر الأول في احجار الدومينو التي تداعت على التوالي في جنوب شرقي آسيا.
ويقول دانييل يرغين، مؤلف كتاب "الغنيمة"، وهو أهم ما كتب عن تاريخ النفط وصلته بالاقتصاد العالمي، ان المحللين كافة فشلوا في توقع انهيار الشيوعية في روسيا، وأن الجهة الوحيدة التي توقعت ذلك كانت شركة شل النفطية الهولندية - البريطانية. وكان المحللون في شل وضعوا كل السيناريوهات المحتملة للوضع في روسيا بعد انهيار اسعار النفط في منتصف الثمانينات، ومن ضمنها سيناريو التدمير الذاتي للنظام في موسكو.
كذلك لم يتوقع أحد انهيار الأسواق المالية والنقدية الآسيوية خلال مرحلة نمو اقتصادي ثابتة دامت نحو خمسة أعوام، واستقرار نسبي دام أكثر من 30 عاماً. إلا أن ذلك كان السيناريو الذي لا بد من وضع احتمال له، والا جاءت المفاجأة قاتلة.
من الصعب القول ان الأزمة انطلقت من هذه الدولة أو تلك، لأن العوامل كانت تتفاعل بصمت في كل الدول. ولا يختلف الخلل في الفيليبين عنه في اليابان. فهناك عوارض اقتصادية وادارية، وتركات من الفساد، أو التراخي، لم تمكن أسواق هذه الدول الاستثمارية من تصحيح أوضاعها في المدى القصير. لكن من الخطأ القول ان الفساد أو الخلل هو عارض آسيوي أو شرق أوسطي أو أفريقي، أو غيره. فما حدث في أواسط الثمانينات في الأسواق الأميركية والأوروبية، وما حدث في السبعينات في دول أميركا اللاتينية، يدلّ على أن الخلل موجود في مختلف المناطق. وأن الدروس تكتسب بالتجارب. والأخطاء ترتكب، بعضها بسبب الفساد، لكن معظمها في حمى الجشع. وذاكرة الأسواق ضعيفة دائما.
وفي الأزمة الآسيوية الأخيرة تدحرج الحجر التايلاندي أولا، فنال من حجارة كثيرة، وأيقظ جميع الغافلين عن وصول عربة النمو الى احدى قمم الصعود، فساد الذعر والهلع، وصحا المحللون ليعيدوا تقويم الأوضاع.
تايلاند
انطلق الطوفان الإعصاري في 25 حزيران يونيو 1997 عندما تبين ثانونغ بيديا وزير الاقتصاد التايلاندي، الذي عين في منصبه قبل خمسة أيام، حقيقة وضع احتياط بلاده من العملات الاجنبية، بعدما كان مسؤولون في المصرف المركزي في بانكوك يخفونه، واكتشف ان الشاب القليل الخبرة اسمه بايبون كيتسريكانغوان، رئيس قسم عمليات التداول في المصرف، حجز معظم احتياطات العملات الاجنبية، وقيمتها 30 بليون دولار، في عقود آجلة. كما تبين ان احتياط تايلاند من النقد الاجنبي المتبقي لا يتجاوز 1.4 بليون دولار، تكفي لتسديد واردات البلاد ليومين فقط.
الى جانب هذا الاكتشاف المرعب، اتضح ان "صندوق تنمية المؤسسات المالية" قدم قروضا لشركات مالية متعثرة بلغت قيمتها ثمانية بلايين دولار، وتلقت شركة "فاينانس ون" Finance One وحدها اكثر من بليون دولار في الفصل الأول من عام 1997. وبذلك تبخر الفائض المالي الذي حققته البلاد على مدى سبعة أعوام، وتبين ان المصرف المركزي التايلاندي كان يطبع مبالغ ضخمة من العملة المحلية غير المغطاة باحتياط من النقد الأجنبي للتعويض عن النقص الفادح. وتحول النظام المالي الى حفرة مظلمة تبتلع المال العام من دون نهاية للحالة. لكن أين كان صندوق النقد الدولي مما يحدث؟
لم يمض وقت طويل على لقاء وزير المال بمحافظ البنك المركزي حتى تكشفت الفضيحة. اذ تسربت انباء بأن "صندوق تنمية المؤسسات المالية" سيتوقف عن شراء اسهم في شركة "فاينانس ون" التي اوصدت أبوابها مع 15 شركة وساطة مالية متعثرة بعد يومين فقط. في الثاني من تموز يوليو 1997 اضطرت تايلاند الى تحرير سعر صرف عملتها المحلية البات المربوط منذ وقت طويل بالدولار. وبذلك دخلت منطقة شرق آسيا نفق الأزمة المظلم الذي يستمر الى أجل غير مسمى.
اتخذ ثانونغ بيديا خطوة تعويم سعر صرف البات ليتفادى التخلف عن سداد ديون تايلاند الاجنبية. وكان سماحه لشركة "فاينانس ون" بالاقفال بداية الأزمة . لكن التخلي عن مساندة الشركة لم يعن أن قروض "صندوق تنمية المؤسسات المالية" للشركات توقف نهائيا، بل تضاعفت بالعملة المحلية من 200 بليون بات الى 600 بليون.
والمهم في التخلي عن "فاينانس وان" أن المستثمرين الأجانب النشطين في السوق المالية التايلاندية غيروا تقويمهم للوضع المالي والاستثماري التايلاندي. وعندما جرى تعويم البات، انهار سعر الصرف نتيجة التقويم الضعيف لسبب أساسي اضافي هو أن المصرف المركزي التايلاندي لم يعد يلعب - بسبب ضعف احتياطاته النقدية الاجنبية - دور الدائن في حالات الشدّة القصوى. وعليه ارتفع هامش المخاطر النسبة الاضافية التي يضعها الدائنون للاحتراز من مخاطر تقلب العملة والوضع المالي غير المستقر في البلاد في حسابات الدين الى أرقام خيالية.
جاءت هذه التطورات المتسارعة بالنسبة للمستثمرين الأجانب مفاجئة تماما. الا ان المصرف المركزي التايلاندي، ومعه البنك الدولي، ومؤسسة التمويل الدولية التابعة له، كانت كلها تطمئنهم بما في ذلك المصارف العالمية الكبرى التي وضعت الملايين في "فاينانس ون"، بأن قيمة البات باقية، وأن شركات تايلاند الاستثمارية تعد ملاذا مأمونا، ولن يسمح لها بأن تفلس. ومن الأمثلة على مدى فداحة الخسائر المحتملة من جراء هذه التطمينات أن مصرف "أي ان جي بنك تايلاند" اقرض "فاينانس ون" 160 مليون دولار قبل أشهر قليلة من انهيارها. وتمّ ذلك برعاية مؤسسة التمويل الدولية.
أخطر ما في عملية التضليل التي مارستها الحكومة التايلاندية واستطاعت من خلالها توريط المستثمرين الغافلين، رغم شكوك محدودة من بعضهم، أنها حافظت على سعر صرف ثابت للبات في مقابل الدولار. لكن ما الذي جعل تايلاند تفقد زخم النمو في الاقتصاد الحقيقي القائم على الانتاج والتصدير؟
يقول المحللون، القادرون دائما على تشخيص العلل بعد تفشيها، ان سعر الصرف المفتعل الذي حافظ على قيمة مصطنعة للبات التايلاندي أثر في صادرات البلاد، إذ أفقدها فرصاً أساسية في المنافسة الخارجية. ولقد اعتمدت تايلاند في نموها الذي اثار الدهشة لأعوام عدة على الصادرات، واتجهت الاستثمارات في معظمها عام 1996 الى القطاعين العقاري والمالي، وكلاهما غير انتاجيين ويتسمان بالدورة الاستثمارية القصيرة، بمعنى أن المستثمر يتوقع عوائد سريعة فيهما، ولا يبني استثماراته على خطط طويلة الأمد.
عندذاك فاحت رائحة الدم من اقتصاد تايلاند المصاب، وتحركت "أسماك القرش" من المضاربين في أسواق العملات الذين سرعان ما أدركوا أن هناك فرصا متاحة للكسب السريع. فيما اصاب الهلع المستثمرين في الشركات التايلاندية، فهرعوا الى السوق يبيعون كل شيء بأبخس الأثمان لتقليص خسائرهم. وتعرض البات في العام الماضي لهجومين. لكن الحكومة كانت لديها خيارات أخرى غير خفض سعر الصرف. اذ بدت الحالة جزءا من عوارض مشابهة ظهرت في ذلك الحين في بلدان آسيوية وأخرى في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية.
خرج معظم ابطال الفساد وما تلاه من تطورات في تايلاند من الواجهة. وبعضهم، مثل محافظ البنك المركزي، تلقى مكافأة على "حسن ادارته". ويواجه المحافظ الجديد تشاياوات ويبلسواسدي تحقيقا حول دوره في سوء الادارة.
وعلى رغم أن تايلاند حصلت من صندوق النقد الدولي على قرض انقاذي بقيمة 17.2 بليون دولار اكتشفت في وقت لاحق أن وضعها أسوأ بكثير من جميع التوقعات. فيما تبخرت أكثر من نصف قيمة عملتها منذ تعويم البات.
وتواجه تايلاند في الأشهر القليلة المقبلة استحقاق تسديد ديون تصل الى 30 بليون دولار. لكن ترتيبات كثيرة فرضتها المرحلة الراهنة جعلت السوق المالية تستقر نوعا ما في البلاد. ومن هذه الاجراءات قبول المصارف اليابانية تأجيل استيفاء ديونها، وتحقيق تايلاند بفضل التقشف الشديد، فائضاً في حسابها الجاري. كما فرضت الحكومة على شركات التصدير بيع سنداتها الدولارية، وجمدت عمليات تسديد الديون المستحقة على الشركات.
أندونيسيا
بعد تفجر الأزمة التايلاندية، عوّمت جاكرتا الروبية الاندونيسية في 14 آب أغسطس الماضي، وأتبعتها في الثالث من أيلول سبتمبر بخطة طموحة للاصلاح الاقتصادي ترمي الى بعث الثقة بالاقتصاد.
وتعاطى صندوق النقد الدولي مع اندونيسيا دائما بشيء من التفضيل بسبب سياستها المالية المحافظة.
وبدت جاكرتا مستعدة لتلبية شروط الصندوق للمحافظة على تلك العلاقة الوطيدة، إذ جمدت تنفيذ مشاريع عدة مكلفة، وأعلنت، للمرة الأولى، استعدادها لاقفال المصارف المتعثرة أو المفلسة. ورفعت الرسوم الجمركية على الواردات الكمالية، فيما قلصتها على المواد الأولية التي تدخل في الصناعة، ووعدت برفع حصة المستثمرين الأجانب في الاسهم المحلية الى 49 في المئة، وبتخفيف الفائدة على العملة، وبالتالي المساهمة في انعاش السوق. واثر ذلك ارتفع سعر صرف العملة الى أقل من ثلاثة آلاف مقابل الدولار. كما تحسن مؤشر بورصة جاكرتا بقوة. واعتبر الجميع بما فيهم المستثمرون الأجانب أن كل المشاكل انتهت، وأن الخطة ستؤتي أكلها. ولم يدرك أحد مدى عمق الأزمة.
في 16 أيلول سبتمبر اعلن وزير المال مرعي محمد خططاً أخرى ترمي الى تجميد تنفيذ عدد من المشاريع العامة المكلفة، بما فيها محطات لتوليد الطاقة، وطرق سريعة تدفع السيارات رسوماً للمرور عليها، وأخرى عائدة لأبناء الرئيس سوهارتو الذي أمضى في الحكم نحو ثلاثين عاما، تمتع فيها المقربون منه، خصوصاً أبناءه، بأوضاع تفضيلية في الأعمال، من ضمنها امتلاكهم مصارف عدة ومصنعاً للسيارات مدعوماً من الدولة.
لكن السوق المالية التي تقرأ المسائل بعمق مختلف، ارتعدت هذه المرة، إذ باتت لديها شكوك حول مدى عمق الأزمة، وعلى رأسها تراكم ديون قصيرة الأجل على الشركات خصوصاً بعدما هوى سعر صرف العملة. ولم تسند تلك الديون بآلية احترازية تحميها من تقلبات معدلات الفائدة، وهو اجراء تتبعه الشركات في الخارج عادة وتشتري الشركات بموجبه اسعار صرف أو أسعار فائدة ثابتة في العقود الآجلة وعقود الخيار Futures and Options.
بعد تدهور سعر صرف الروبية ارتفعت ديون الشركات في الخارج الى السطح بعدما كانت مطموسة بأساليب افصاح وتقارير تفتقر الى الشفافية الضرورية. وكانت التقديرات الأولية تشير الى أن الدين الخاص بلغ 55 بليون دولار. الا أن شركات الوساطة المالية قدرت قيمة الدين بما بين 20 و50 بليوناً أعلى من ذلك.
وكما حدث في تايلاند، اخفت الحكومة الاندونيسية الصورة الحقيقية. وفجأة فقدت جاكرتا مقامها لدى الجميع، خصوصاً لدى صندوق النقد الدولي. ومثلما تدافع المستثمرون الأجانب في السابق للفوز بحصة من الوليمة الاستثمارية الاندونيسية، كان تدافعهم أسرع للخروج منها، حتى ولو داس بعضهم بعضا. وبدورها تحركت الشركات المحلية سعيا لخفض سعر الفائدة. لكن على رغم أن القروض الحكومية باتت أرخص من ذي قبل، احجمت غالبية المصارف عن تقديم القروض للشركات.
كانت الحكومة الاندونيسية مترددة في وقت كان في استطاعتها عمل شيء ما لانقاذ الموقف من التدهور الكامل خلال أشهر الصيف والخريف الماضي. لكنها كانت تخشى من تلاشي الثقة باقتصادها في حال اعترافها بذلك، وهو ما حدث في نهاية المطاف على أي حال. وشعر المستثمرون الأجانب أن الحكومة غير جادة في اصلاح النظام الاقتصادي المعتمد الى حد بعيد على العائلة والمحسوبية. إذ بدا عدد من الشركات والمصارف التي يملكها نجلا سوهارتو وابنته في منأى عن برنامج الاصلاح الذي وعدت الحكومة بتنفيذه في أيلول سبتمبر الماضي. وتحايل ابنه الأكبر على الجميع في حالات معينة بتغيير إسم أحد المصارف المتعثرة التي يفترض أقفالها.
وتوجت الأزمة عندما اعلنت الموازنة الجديدة أوائل العام الجديد، ولم تراع الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي على جاكرتا في تشرين الأول اكتوبر الماضي لمنحها مساعدة انقاذية تصل الى 38 بليون دولار، اضافة الى خمسة بلايين رتبتها اندونيسيا من مصادر دولية عبر مفاوضات ثنائية مباشرة.
ساهم الشعور بضخامة الأزمة في ضعضعة الثقة بمستقبل البلاد في حال جدد سوهارتو فترة ولايته. كما أن اختياره الوزير حبيبي خلفاً له في حال وفاته كان أيضا موضع جدل. فحبيبي لم يكن موضع ترحيب السوق لقلة درايته بالاقتصاد. لذلك تدهور سعر صرف الروبية الى مستويات خرافية في النصف الثاني من كانون الثاني يناير ليصل الى نحو 16 الفا في مقابل الدولار. وبرزت عند ذلك دعوات علنية حتى في الصحافة المحلية التي لم تكن تجرؤ من قبل على تناول مقام الرئيس، تطالب بضرورة تنحي سوهارتو عن الحكم. الا أنه تحرك ولو متأخرا بعض الشيء، وأصدر موازنة معدلة أواخر الشهر ارتاحت السوق لها، وانتعش سعر صرف الروبية بعض الشيء.
وأتبع سوهارتو الموازنة بخمسة عشر مرسوما خلال ستة أيام. وفي هذه الموازنة ضغط سوهارتو كثيرا على الانفاق العام، وحرم سلعاً أساسية عدة من الدعم المالي، من بينها بالطبع المحروقات. وكانت النتيجة ان ارتاح المستثمرون الى الاجراءات الجديدة، لكن الحكومة لم تعط ضمانات كاملة للمصارف. وقال محافظ المصرف المركزي سودراجاد جواندونو ان الدولة تستطيع أن تضمن قسما من ديون الشركات البالغة نحو 13.6 بليون دولار، وليس جميعها. لكنها ستلجأ الى وضع عدد من المصارف تحت الحجز الاداري.
وانفقت الحكومة نحو ستين الف بليون روبية في تشرين الثاني نوفمبر من أجل انعاش 225 من المصارف المتعثرة. وعليه فانها باتت تمتلك حصة الغالبية في قسم منها طالما أن معظم المودعين سحبوا أموالهم وابتعدوا عنها.
واثر ادخال الاصلاحات الجديدة، سارع صندوق النقد الدولي الى تقديم الدفعة الثانية من القرض المخصص لاندونيسيا وقيمته ثلاثة بلايين دولار في شباط فبراير بدل آذار مارس بعدما تفشى القلق في الدول المجاورة على استقرار البلاد ومضاعفات ذلك على المنطقة بأسرها. الا أن وكالة تصنيف الملاءة الائتمانية الأميركية "ستاندرد أند بور" خفضت تصنيف ملاءة اندونيسيا الائتمانية كثيرا بحيث لم يعد في وسع الحكومة اصدار سندات بالعملة الأجنبية لتمويل المصارف أو الشركات التي تنوي دعمها، حتى ولو كان الغرض تأميمها، وبات في امكانها اصدار سندات مقومة بالعملة المحلية فقط. وما تستطيع اندونيسيا أن تفعله في هذه الحالة هو تشجيع المصارف على تجميع قواها عبر عمليات دمج، وتقليص عددها.
لكن مشكلة ديون اندونيسيا ليست مشكلة محلية بحتة، بقدر ما هي مشكلة اقليمية. إذ أن عدداً من الشركات والبنوك اليابانية والسنغافورية وأخرى في هونغ كونغ ضخت استثمارات، وقدمت قروضا في اندونيسيا حيث العمالة الرخيصة والسوق الكبيرة. كما أن اندونيسيا دولة غنية بثرواتها الطبيعية التي تحتاجها الصناعات في النمور الآسيوية الأخرى.
وتركز المعالجات الدولية على القروض الاندونيسية الخاصة القصيرة الأجل والتي تراوح قيمتها بين 30 و60 بليون دولار. وبين المعالجات المطروحة انشاء وكالة حكومية تعيد جدولة الديون القصيرة الأجل لتصبح طويلة الأجل، تمتد الى ثماني سنوات.
لكن المسؤولين في اليابان وفي صندوق النقد الدولي يعتقدون أن مشاكل مديونية اندونيسيا سياسية في المقام الأول، وأنها أقل إلحاحا من مشاكل الديون التي قدمتها المصارف اليابانية الى كوريا الجنوبية.
ورفضت اندونيسيا الاقتراحات التي تقدمت بها مصارف عالمية بأن تؤمن جاكرتا ضمانات في سوق العملة - أي نوع من تثبيت سعر صرف الروبية بتدخل حكومي. والهدف حسب رأي المصارف هو سداد ديونها البالغة 80 بليون دولار. ويعود سبب الرفض الى أن الحكومة ستتحمل في هذه الحالة ديون القطاع الخاص، وبالتالي ستفقد دعم صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة في موضوع المساعدات الانقاذية التي تتلقاها.
وكانت المكسيك في أزمتها الشهيرة في العقد الماضي قدمت نوعا من الضمانات في سعر تحويل عملتها للشركات الوطنية المدينة بهدف تمكينها من تنظيم دفعاتها الخارجية بشيء من الاستقرار والتوازن بين ايراداتها ومدفوعاتها. لكنها لم تكن ضمانات رسمية بالكامل. وتكمن مساوئ الحل المتمثل في تبني الدولة قروض الشركات الخاصة، أنها تتحول الى شركات تابعة للحكومة، أي مؤممة. فيما الحل المطلوب هو انعاش الدولة القطاع المالي ككل، لأنه السبب الفعلي للأزمة بعد الفساد السياسي.
وكجزء من الحل المطروح في اندونيسيا، شكلت لجنة مصرفية اجنبية بهدف معالجة عملية اعادة جدولة ديون القطاع الخاص، من مهماتها ممارسة ضغط على الحكومة الاندونيسية لرفع درجة الشفافية في الحسابات فضلا عن تقويم أوضاعها الاقتصادية ومدى انسجام اصلاحاتها مع شروط صندوق النقد الدولي. لكن مهمات اللجنة التي تضم مصارف يابانية ليست ميسّرة، بسبب غياب الاحصاءات المالية الدقيقة في دولة قام النشاط المالي فيها على العلاقات العشائرية. ومن ذلك مثلا أن ديون المصارف الكورية للشركات الاندونيسية قدرت بما بين 2.5 و25 بليون دولار.
ويرى ويليام كيلنغ الباحث المتخصص في الشؤون الآسيوية في مصرف "درسدنر كلاينفورت بنسون" في لندن، أن جميع الخطط التي اتفق في شأنها مع اندونيسيا لم تراع كيفية توفير نحو 15 بليون دولار لتعويم المصارف. ويشكل هذا المبلغ 25 في المئة من الدخل القومي الاندونيسي. وأضاف في تصريح خاص ان المصارف الأندونيسية لن تتعافى في تركيبتها الحالية ما لم تتلق تمويلا ينعشها، لكن الرغبة الخارجية في الاكتتاب بسندات اقتراض ضعيفة للغاية.
ومن الاجراءات التي اتبعتها اندونيسيا تجميد تسديد ديون الشركات الخارجية لثلاثة اشهر تتم خلالها الانتخابات الرئاسية، ويجري التفاوض على شروط اعادة جدولة الديون. لكن المفاوضات لن تكون سهلة طالما أن الاستقرار السياسي في اندونيسيا التي انزلت القوات المسلحة في الشوارع لحفظ الأمن غير مأمون، وطالما أن الانقسام في العائلة الحاكمة معرض لأن يطفو الى السطح كلما اقتربت الاصلاحات من أولاد سوهارتو المحظيين. فيما يهدد الوضع المتفجر في تدفق ملايين اللاجئين من اندونيسيا الى الدول المجاورة، حاملين معهم صراعات عرقية لا نهاية لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.