السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتابين عن تجارب اليابان والنمور والصين . محاولتان في "الاستشراق العربي" للثورة الصناعية الآسيوية
نشر في الحياة يوم 31 - 12 - 2000

ما هي آفاق "الاستشراق العربي" لتجربة بلدان شرق آسيا؟ هل يمكن البحث عن النموذجية في تجربة شديدة الخصوصية، أم ان الخصوصية بحد ذاتها هي النموذج؟ مسعود ضاهر، يبحث المسألة من موقع المؤرخ ويقارن تجربة التحديث اليابانية بمحاولات الإصلاح في مصر والسلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر. محمود عبدالفضيل، يستشرف من موقع الاقتصادي تكيفية ولوج بلدان جنوب شرقي آسيا للألفية الثالثة، ويرصد امكانات الاستفادة العربية من تجربة شديدة الخصوصية في الزمان والمكان، ويبقى السؤال الحاضر في كل صفحة من الكتابين: كيف تقدمت بلدان آسيا وتخلفت الأقطار العربية، وكلنا في الهم شرق؟ كيف تم ذلك فيما شرقنا أدنى الى أوروبا، ومتاخم لحضارة الغرب، في حين ان الشرق الأقصى أبعد أقاليم المعمورة الى الغرب.
يدخلك كتابا ضاهر وعبدالفضيل في مقارنة متعددة الأبعاد. تتجاوز المقارنة بين شرقين، عربي وآسيوي، أو بين بلدين من هذا الشرق أو ذاك، الى المقارنة بين تجربتين نهضويتين من زمنين مختلفين، تجربة يابانية في التحديث منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وتجربة شرق آسيوية في النهوض الاقتصادي والتكيف مع تحديات العولمة. وفي كل من التجربتين النهضويتين تبرز سيرورة تاريخية واحدة في انجاز الثورة الصناعية الآسيوية انطلاقاً من اليابان.
التوازن الياباني والانفصام العثماني
العلاقة مع الغرب هي معيار المقارنة التاريخية عند مسعود ضاهر. واجهت اليابان كما السلطنة العثمانية الخطر الاستعماري الغربي في الحقبة نفسها.
العزلة الطبيعية ثم الطوعية شكلت السياق المناسب لتوحيد الأرخبيل الياباني قومياً، والسلطة المركزية الوراثية في مرحلة توكو غاوا مهدت لقيام الدولة الامبراطوورية، وجاءت وثيقة الإصلاح عام 1868 مع الامبراطور ميجي لترسم توجهات الدولة في الجبهات النهضوية الثلاث، فتعمل على بناء جيش عصري، وبناء اقتصاد حديث قوامه التصنيع الثقيل والنهضة العلمية، وصون أصالة "الروح اليابانية" وتنمية الثقافة القومية الخاصة.
نشأت النهضة اليابانية خارج النادي الغربي، وحرصت على توطين التكنولوجيا بدل ان تتخلف عن هذه التكنولوجيا ان حاربتها، أو تستتبع لدول الغرب ان اكتفت بالاستيراد أو فتحت الباب للاستثمارات الخارجية. كما تحاشت النهضة اليابانية مخاطر السقوط في سياسة الاقتراض. انها تجربة تحديث على أساس "التوازن" بين تطوير القوى الذاتية والحفاظ على الذات، بين التوظيف في قواعد الانتاج والتوظيف في انتاج رأس المال البشري، بين الدور الاحتكاري للدولة ونشأة شركات احتكارية ضخمة زايباتسو، بين التراتب الطبقي الدقيق والتقدم الاجتماعي لكل الطبقات والشرائح في اطار احترام هذا التسلسل.
واجهت اليابان باكراً مخاطر التغلغل الغربي، وتمسكت بعقيدة الكوكوتاي السيادية الى أقصى حدود الشوفينية، فتمكنت من الافلات من الانذارات والاتفاقات المجحفة التي فرضها الغرب عليها. الخلاصة الرئيسية: لم يكن ثمة خيار ثالث لليابان بين أن تصبح "دولة امبريالية" أو أن تتحول الى شبه مستعمرة مفككة الأوصال مثل الصين. اختارت تجربة التحديث اليابانية أن تكون للعسكر، وبالعسكر، فأنقذت بلادها من خطر الاستعمار الغربي، وفرضت في الوقت نفسه الاستعمار الياباني على الشعوب المجاورة، مطلقة العنان لنزعة عدوانية توسعية خلقت مشاعر الكراهية بين الشعوب، وقادت اليابان الى الهزيمة العسكرية والاحتلال الأميركي في الحرب العالمية الثانية. بيد ان تجربة الامبراطور ميجي ومن بعده مثلت "نهضة متميزة في التحديث غير قابلة للارتداد" ومهدت لنهضة ثانية، منزوعة السلاح، بعد الحرب.
محاولات الإصلاح والتحديث في شرقنا العربي سبقت النهضة اليابانية، بيد أنها لم تتمكن من بلورة سيرورة تاريخية قادرة على التصدي لعملية تجزئة وانحلال السلطنة العثمانية. انتقلت السلطنة من غزو الغرب الى استدعاء غزواته ضد ولاتها المتمردين من أمثال أحمد باشا الجزار ومحمد علي. لم تتمكن السلطنة من الاستفادة من نموذج صمود عكا أمام بونابرت، وتحولت الى ميدان صراع بين القوى الأوروبية المختلفة، كما اصطدمت تجربة التحديث المصرية بتجربة التحديث العثمانية تبعاً لأهداف فرنسا وبريطانيا. سعت مصر مع محمد علي الى تحقيق التحديث الذاتي، على أساس نهضة علمية وتربوية، وبناء مؤسسات الدولة الاحتكارية، وبناء جيش عصري على الطريقة الفرنسية، بيد ان هذه التجربة سرعان ما تحولت بعد محمد علي من التحديث الى التغريب، وأسرفت في المديونية المنفلتة من عقالها، وغرقت في أوهام الخديوي اسماعيل بجعل مصر قطعة من أوروبا، فانتهى الأمر بمصر مستعمرة بريطانية.
شيوع نموذج الدولة القومية، وأفول عصر الامبراطوريات، أوجد أرضية الانفصام في مبدأ وجود السلطنة العثمانية. الدولة اليابانية توطدت في القرن التاسع عشر كدولة قومية وامبراطورية حديثة، في حين بات وجود السلطنة يتناقض مع تطوير القوى المنتجة. عجزت السلطنة عن البقاء كامبراطورية فوق هذا الفسيفساء المتأزم من القوميات والديانات والأقاليم، وكان تحوّلها الى دولة قومية يعني بداية نهايتها. التحدي الغربي فرض نفسه على تجربتي التحديث: اليابان رافقت تحديث مجتمعها بإطلاق العنان لنزعة عسكرية عدوانية، في حين جرى اضعاف الانكشارية، وتحديث الجيش العثماني على حساب تحديث المجتمع. النهضة اليابانية جمعت التراث الى الحداثة، في حين اجتمع التقليديون والليبراليون على رفض "التنظيمات" العثمانية التي لم تجد قوة اجتماعية صاعدة قادرة على حمل لوائها. وفي النهاية أنتج الانفصام العثماني مسارين مختلفين: الكمالية التي قادت تركيا الى التغريب الكامل ونموذج الدولة القومية العلمانية، والمسار العربي الذي رزح تحت ثنائية الانغلاق أو التغريب.
الأوز الطائر
والتجربة الآسيوية في التنمية
شكلت تجربة النهوض بالاقتصاد الياباني بعد الحرب قاطرة عملية النهوض الاقتصادي في بلدان جنوب شرقي آسيا. بحسب نموذج "الأوز الطائر" للتكامل بين اقتصادات تمر بمراحل مختلفة من التنمية والتصنيع، يبدأ البلد الآسيوي الآخذ بالنمو باستيراد السلعة من البلد القدوة اليابان ثم يحاول انتاج السلعة على أرضه بتمويل مشترك مع اليابانيين أو غيرهم، ثم يباشر بتصدير السلعة الى البلدان الآسيوية المجاورة الأقل تقدماً، فترتقي البلدان الآسيوية سلم التصنيع تباعاً، بما يفضي الى اعادة توزيع التقسيم الإقليمي للعمل على شكل أسراب من الأوز الطائر، اليابان في الدرجة الأولى، ثم المجموعة الثانية كوريا الجنوبية، تايوان، هونغ كونغ، ثم على ارتفاع أقل ومسافة أبعد سرب المجموعة الثالثة ماليزيا، تايلند، أندونيسيا.
يعتبر محمود عبدالفضيل ان نموذج "الأوز الطائر" تقف دون تعميمه حدود تاريخية، إذ ان البلدان التي قدمت متأخرة تواجه تعقيدات جديدة في ظل عملية تحرير التجارة المتعارضة مع السياسات الحمائية، وبعد اتفاق حقوق الملكية الفكرية التي رفعت من تكلفة شراء التقانه الحديثة. كما لا يمكن التقليل من أهمية التناقضات بين الحكومات والشركات من "الأسراب المتقدمة" و"البلدان المضيفة"، بين حكومات البلدان المصدرة لرأس المال والبلدان المضيفة، وبين حكومات البلدان المضيفة والشركات الهابطة من الأسراب المتقدمة.
الحقيقة الأساسية التي يبرزها نموذج "الأوز الطائر" اليوم تتمثل في أننا ندخل "مرحلة اعادة فرز واعادة ترتيب البلدان النامية في ظل عمليات التطور الاقتصادي والعولمة المتصاعدة" ص 186، فهو نموذج مرتبط بالسمات الرئيسية للتنمية على الطريقة الآسيوية: الاستراتيجية الاستثمارية، والتحيز التصديري، ودور الدولة المحفز والمخطط، ودور الاقتصاد كأحد مقومات الأمن القومي. ويشدد عبدالفضيل على الكفاية المؤسسية كشرط أساسي للنمو والتنمية، فلا تنحصر المشكلة في هذا الكم من العام، أو ذاك الكم من الخاص. المهم ان تمر العلاقة بين الخطة والسوق من خلال "المؤسسة"، وهذا ما يكفل الحد من تبديد الموارد، ومن الخلل الاجتماعي.
ان دينامية الانتاج ونوعية المنتجات هي التي توسع النشاط التصديري وليس العكس، ذلك لأن "الاختراق التصديري" مرتبط حكماً بتأمين القدرة الذاتية على اجتياز حاجز التقنية العالية، وبالتالي احداث تحول عميق في الهيكل الصناعي، من الصناعات الخفيفة والمتوسطة الى الثقيلة، وصولاً الى الساعات الالكترونية ثم الصناعات الدقيقة عالية التقانة. باستثناء كوريا الجنوبية، التي اعتمدت على تمويل أميركي ضخم وتوجيه حكومي مركّز لجهة اقامة منظومة العلم والتقانة، لا تزال الصناعات الطاغية تجميعية أو منتجة لمكونات، ولا تزال تعتمد على مصادر تقانة وانتاج وادارة خارجية، وان وجب تسجيل بدايات جادة للتطوير والابتكار في تايوان وماليزيا وأندونيسيا.
ان رفع كفاية استخدام الموارد هو أهم ما يواجه الاقتصادات الآسيوية من تحديات. يتجسد هذا التحدي في التخلص التدريجي من الأنشطة الصناعية ذات القيمة المضافة المنخفضة، واستبدالها بصناعات حديثة ذات قيمة عالية، بما يتفق مع متغيرات التقسيم الدولي للعمل، ومع التطورات التقانية. وتلك مهمة صعبة بالنسبة لاقتصادات حديثة التصنيع تعتمد على الصناعات التصديرية القائمة على التجميع وتصنيع المكونات، وفي ظل حمى السوق. لذلك ينحاز المؤلف الى فكرة "مثلثات النمو" مثلاً: مثلث سنغافورة - تايلند - ماليزيا بما تعنيه من دمج للطاقات والمهارات في نسيج صناعي واحد، ونظراً لما تؤمنه من وفورات الحجم والنطاق وقدرة أوسع على التكيف مع المشكلات الناشئة من عمليات تحرير التجارة.
الدولة والقطاع الخاص
والاستثمارات الأجنبية
تتحرك السمات العامة للتجربة الآسيوية ضمن خصوصية كل بلد، فتبرز تجربة سنغافورة كتجربة للنمو السريع في اقتصاد صغير 8،2 مليون نسمة في 250كلم2، ومتوسط دخل سنوي للفرد يبلغ 16500 دولار أميركي، يقوم على الخدمات المالية والتجارية والسياحية، وعلى تقانة المعلومات. استفاد الاقتصاد السنغافوري من ظروف الحرب الباردة، حين تمكن من جذب الشركات دولية النشاط. وتحولت الى منصة تصدير للشركات الدولية، ما يؤمن ضبط جودة المنتجات والتمويل والتسويق، ويساهم في تحقيق ما يصبو اليه التخطيط المؤسسي المتطور الذي يعمل على جذب الاستثمارات الخارجية المباشرة، وعلى تنمية التجارة السنغافورية في الأسواق الخارجية.
يرتكز النمو السريع في سنغافورة على التوجه التصديري، وعلى مراعاة أولويات درجة توليد القيمة المضافة، ودرجة كثافة رأس المال، و"المحتوى من المهارة" لقوة العمل، بغية التحول الى مركز الخدمات الرئيسي في المنطقة، والى "جزيرة ذكية" متقدمة لتقانة المعلومات. يخلص الكتاب الى أنه لا يمكن استنساخ سنغافورة عربية، بقدر ما ينبغي الاستفادة من اعتماد نموذجها على التخطيط الاقتصادي الحكومي.
ماليزيا تخوض في المقابل تجربة أكثر تعلقاً بأولويات الوطنية الاقتصادية ضمن دائرة العولمة، أي ثالوث النمو والتحديث والتصنيع وفقاً لمفهوم "ماليزيا كشراكة" بين القطاعين العام والخاص، وبين مختلف مكونات مجتمع الأعمال الماليزي الصينيون والمالاوي. تطورت عملية التنمية من الاطار التقليدي الحلول محل الواردات في الخمسينات، الى التوجه التصديري، ثم التصنيع الثقيل لتوسيع وتعميق القاعدة الصناعية للبلد الحديد والصلب والاسمنت. ومع تنمية رأس المال البشري بدأت ماليزيا تركز على الصناعات التي تولد قيماً مضافة عالية، وذات المحتوى التقاني العالي، لكنها لم تنجح في الغالب على ارتفاع درجة الكثافة الاستيرادية للأنشطة الانتاجية، ولا تزال أسيرة الأنشطة الصناعية ذات القيمة المضافة المخفوضة، أو تلك التي تعتمد على اليد العاملة غير الماهرة. وتعاني ماليزيا من هشاشة العلاقة بين فروع الصناعات التصديرية وبقية قطاعات الاقتصاد، ومن عدم نجاح المصدرين في تطوير شبكات تسويقية مستقلة. ما حققته ماليزيا من وطنية التنمية مع مهاتير محمد هو الدرس الأول: ضرورة الأنشطة الحمائية والتدخلية للدولة بغية وضع قيود على حركة رؤوس الأموال القصيرة الأجل الأموال الساخنة ومضارباتها المخرّبة للاقتصاد القومي. وفي ما تواجهه ماليزيا من معوقات يمكن استخلاص الدرس الثاني: ضرورة ضبط سرعة التوسع في معدلات النمو والتحديث وفقاً للقدرة الاستيعابية للاقتصاد الوطني، والا انقلب الرواج كساداً.
تايلندا نموذج مختلف تماماً. انها "دولة رخوة" وطيعة بالنسبة لرأس المال الأجنبي، وهي "نمر آسيا المريض" التي بدأت أزمة 1997 باصطياده، فانتقلت عدواه الى بقية المنطقة. فاقتصادها يقوم على فقاعة تستند في رواجها، وفي كسادها، على حركة الأموال الساخنة، والمضاربات، وعائدات السياحة الجنسية.
كوريا الجنوبية هي أنضج النمور الآسيوية. يعد اقتصادها من بين الأكثر نمواً في العالم، فقد ارتكز في عملية نهوضه على كل من الدولة، والشركات الضخمة، والمساعدات، والاستثمارات الخارجية. تلقت كوريا الجنوبية النصيب الأسد من المساعدات الأجنبية أميركا، اليابان، مستفيدة من ظروف الحرب الباردة، ثم تمكنت من الاعتماد على جهد ادخاري ذاتي أسس لقفزة اقتصادية هائلةً في الثمانينات، اعتماداً على السياسات الحكومية التدخلية التي كانت تدفع الشركات الصناعية الى تكوين وحدات عملاقة، تدعم دور رأس المال الوطني.
جمعت هذه السياسات الحكومية بين تقديم الحوافز المالية والضريبية، وبين فرض قيود على المشروعات التي تضر بالاقتصاد الوطني واستقراره وتطوره، في مقابل السعي لاجتذاب التقانة كثيفة رأس المال. اعتماد الاقتصاد الكوري في فترة النمو العالي على نظيره الياباني بحسب نموذج "الأوز الطائر" ما أدى الى تحقيق قدر كبير من التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية، وساهم في التقسيم المرن للأنشطة الصناعية والتسهيلات الانتاجية بين الاقتصادين الياباني والكوري. المصدر الرئيسي لتمويل الاستثمارات في كوريا يأتي من استخدام القروض الأجنبية الداعمة للسياسات الاقتصادية وليس من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
نظام المجتمعات الصناعية العملاقة هو "قاطرة عملية التنمية" في كوريا، وهذه المجمعات متنوعة الأنشطة سامسونغ، هيونداي، غولد ستار، دايوو ما يبقيها في مأمن من الفشل. لا فصل واضحاً في هذه المجمعات بين الملكية والإدارة... والسلطة السياسية، وهي ترتكز على قلة من العائلات المالكة التي تفضل الاستدانة على اصدار أسهم جديدة تفقدها السيطرة على مقدرات الأمور نسبة الاقتراض من جملة مصادر التمويل 42 في المئة. على رغم ذلك، فإن نمط توزيع الدخل في كوريا الجنوبية هو الأكثر اعتدالاً في العالم الثالث، فقد عاكست التجربة الكورية فرضية كنوستس التي تقول بميل العدالة في توزيع الدخول الى الانخفاض خلال الفترات الأولى من التنمية والنمو.
الصين ورهان اشتراكية السوق
يولي كتاب "العرب والتجربة الآسيوية" أهمية خاصة لدراسة تجربة الصين وفهم رهانها التاريخي المتمثل في قيام "اشتراكية السوق". ويعتبر المؤلف ان ما يحدث في الصين "مخاض انتقالي طويل لم تتكشف بعد صورته النهائية المستقرة"، ويعيد التأكيد على معالم الاستمرارية في الاستراتيجيا الانمائية منذ قيام الجمهورية الشعبية الى اليوم. لقد وازنت هذه الاستراتيجيا في المرحلة الأولى الماوية بين الزراعة والصناعة، وبين الصناعة الخفيفة والصناعة الثقيلة، ثم اتجهت في المرحلة الثانية الدينغية الى الموازنة بين ملكية رأس المال العام ورأس المال الخاص، وبين ملكية رأس المال الوطني وملكية رأس المال الأجنبي الذي يتحدر هو أيضاً، من أصول صينية بما يفضي الى اقامة معادلة اشتراكية السوق، وهي معادلة واعية للمحاور الخمسة للتنافس بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي: الكفاية الفنية، العدالة التوزيعية، كفاية نظام الحوافز، كفاية نظام المحاسبة المالية والسياسية، الإطار التنظيمي لإدارة العملية الاقتصادية.
تعي "اشتراكية السوق" حقيقة التناقض بين تحقيق كامل الطاقة التنموية وبين الانغلاق على الذات، وتنطلق من مقدمة نظرية أساسية: حضور ثنائية الخطة والسوق في كل من الرأسمالية والاشتراكية اذ ان الاشتراكية كما الرأسمالية محكومة بقانون القيمة. الخطة ملحقة بآليات السوق في ظل الرأسمالية. الانفصام الكامل بين "الخطة" وآليات السوق شكل أحد أهم أسباب انهيار التجارب الاشتراكية البيروقراطية. اشتراكية السوق تسعى في المقابل الى رسم نموذج في التخطيط التوجيهي، تبعاً لخصوصيات السوق الصينية الهائلة، ولارتباط هذه السوق اقليمياً بما يعرف بالعالم الصيني هونغ كونغ، تايوان، الجاليات الصينية. تقوم هذه الاشتراكية على أساس تطوير التداخل بين رقعة السوق ورقعة الخطة، بما يكفل اعادة الاعتبار لمبدأ "سيادة المستهلك"، فتتحدد مؤشرات السوق وفقاً لقانون العرض والطلب وتبعاً للعلاقة المباشرة بين الوحدات الانتاجية والوحدات الاستهلاكية.
ان اشتراكية السوق تعني انشاء منظومة رئيسية من الأسواق للسلع الاستهلاكية والرأسمالية ولخدمات العمل وللملكيات العقارية وللأسهم والسندات والعقود والخدمات التقانية مع ابقاء الدعامات الاشتراكية الثلاث: الملكية العامة لوسائل الانتاج كشكل رئيسي للملكية، يهيمن على الأشكال الأخرى، ومبدأ التوزيع وفقاً للعمل، ومبدأ الحماية الاجتماعية للعاملين والمواطنين.
تم التخلي عن التخطيط البيروقراطي القائم على مبدأ "الكل يأكل من الوعاء الكبير نفسه" لمصلحة التخطيط التوجيهي الذي يحتفظ بحق التدخل لتصحيح أداء الأسواق الحرة، الذي يستند الى نظام ضريبي قوامه الضرائب المباشرة على الدخول والثروات. انعكس ذلك في تحقيق أعلى معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي بين 9 و13 في المئة في العشرين سنة الأخيرة وتطور الأداء التنموي، والتصديري، باتساع حجم السوق الداخلية، وارتفاع القدرة التنافسية الخارجية.
تحولت الصين الى أكبر متلق للاستثمارات الأجنبية. ضبط هذا التدفق بمعايير النوعية لا الحجم، وبشرط استقدام تقانة متقدمة، وحماية السوق المحلية من توسع الشركات الأجنبية، وحماية سيطرة ملكية الدولة مقارنة بالملكيات الأخرى، كما عملت الدولة على جذب هذه الاستثمارات إلى المناطق الداخلية في مجالات البنية الأساسية والخدمات، وسعت الى اعادة استثمار عوائدها في تمويل مجهودات التنمية في الوسط والغرب، في حين بقيت قطاعات أساسية شبه محظورة على رأس المال الأجنبي مثل الطاقة والمواصلات والمعادن والمصارف. "ان الانفتاح الصيني ليس ككل الانفتاحات" لأنه يتم بالشروط الصينية. ترتبط عملية الانتقال التدريجي الى اقتصاد السوق بتجربة المناطق الاقتصادية الخاصة على السواحل، وهي مختبرات تبدأ على نطاق ضيق، وتوفر مدخلات جديدة للصناعات المحلية، وسلع استهلاكية كانت تستورد، ثم تعمم تجاربها الاقتصادية حين تثبت نجاحها، وتعتمد هذه المناطق على استثمارات من أصول صينية، يتدفق أهمها من هونغ كونغ، وهذه الاستثمارات تتسم بالاستمرارية. بيد ان الانفتاح الاقتصادي ارتبط أيضاً باتساع الفجوة التنموية بين المقاطعات والمناطق، وانخفاض الوزن النسبي للشركات المملوكة للدولة من حيث المساهمة في توليد الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع أسعار الأراضي والخدمات العامة، وتراجع دور السلع العامة المجانية الإسكان، التعليم، الصحة، المواصلات، وتزايد حجم التفاوت في الهيكل النسبي للأجور والدخول، واتساع مظاهر الفساد الإداري في قطاعات الدولة.
اعادة الاعتبار إلى الدولة التنموية
قامت التجربة الآسيوية على معادلة السوق المحكومة من الدولة، فدحضت مقولات كلاسيكية قامت على الاستبعاد المتبادل بين العام والخاص، أو بين الوطني والأجنبي. ان الثورة الصناعية مستمرة على قدم وساق في جنوب شرقي آسيا، ومفتوحة على كل الاحتمالات، في ظل التنافس الشديد بين مراكز الاقتصاد العالمي.
أظهرت هذه التجربة ان ما من تنمية يمكن أن تعتمد بصورة مطلقة على الخارج. وما من تنمية يمكنها الانعزال عن السوق الدولية في الوقت نفسه. وتكمن البراعة في امكان ربط الانفتاح وحركة الاستثمارات باستراتيجية التنمية: إذ أعادت التجربة الآسيوية الاعتبار لمفهوم "الدولة التنموية"، متجاوزة الرومانسية الاقتصادية في النظرة الى السوق، أو الى التخطيط. لذلك وجب النظر الى هذه التجربة من دون رومانسية، وعلى أساس التحرر من "وصفات فن الطبخ" في الاقتصاد.
يتوقف الكتاب عند "أزمة صيف 1997" فيؤكد انها نتاج الانفصام بين جودة أداء الاقتصاد العيني في مجالات الانتاج والتصدير والتقدم التقاني، وبين هشاشة وانفلات القطاع المالي وبروز ظاهرة الديون الرديئة، ومضاربات الأموال الساخنة يبالغ المؤلف في استبعاد مسببات الأزمة عن الاقتصاد العيني، فالأزمة هي أيضاً أزمة فوضى وفائض انتاج، كما ان العلاقات بين النمور بدأ يغلب عليها الطابع التنافسي المحموم لا الطابع التعاوني. ويعتبر عبدالفضيل ان هذه الأزمة تنذر بحقبة تنافسية بين الغرب وهذه "النمور" الآسيوية، وهو أمر يخلق حدوده بنفسه، إذ ان اضعاف اقتصادات الشرق الأقصى لا بد أن ينعكس سلباً على الاقتصاد الغربي وحركة صادراته واستثماراته.
أزمة المنطقة العربية مختلفة تماماً. تتمثل في ضعف وهشاشة الاقتصاد العيني. الادخار ضعيف، والاستثمار غير موجه للقطاعات المنتجة، والأداء التصديري متخلف. المدخلات تبدد، والاستثمارات يساء توزيعها، ورأس المال البشري ينزف. الخلاصات المحورية: لا يكون المال محفزاً للتنمية ما لم يندرج في اطار استراتيجيا تنموية انتاجية تقترن بالكفاية المؤسسية والتطوير التقاني، وتولي مكانة مركزية للتصنيع. دخلت النمور ميادين الاقتصاد الجديد على قاعدة التصنيع، وذلك في اطار ما يشهده العالم الثالث من اعادة فرز مع اتساع رقعة البلدان المصنعة حديثاً. ليست المسألة استنتساخ هذه التجربة أو تلك، بل قدرة العرب على الدخول في قائمة الدول المصنعة حديثاً أو لا، والقدرة على التعامل الدينامي مع حقيقة ان الظروف التي ساعدت النمور الآسيوية لا يمكن استيلادها، بعد ان ظهرت ظروف أصعب نشأت من عمليات تحرير التجارة ورفع القيود الحمائية، وعمليات تعميم القيود الاحتكارية بالنسبة للتقانة الحديثة، وان هناك مقدمات أساسية لخوض السباق التنافسي تبدأ بالإصلاح المنظومي، وادراك ان الدعوة للانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المعرفي من دون توطيد قاعدة انتاجية حديثة تبقى مجرد لغو...
** مسعود ضاهر. النهضة العربية والنهضة اليابانية، تشابه المقدمات واختلاف النتائج، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، كانون الأول ديسمبر 1999 سلسلة عالم المعرفة: 252. 399 صفحة.
** محمود عبدالفضيل. العرب والتجربة الآسيوية، الدروس المستفادة. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، تشرين الثاني نوفمبر 2000 261 صفحة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.