بعد أكثر من سبعة أشهر على التدهور الذي أصاب العملة التايلاندية الباهت في تموز يوليو الماضي، وما أعقب ذلك من تأثيرات سلبية على عملات دول جنوب شرقي آسيا، فإن تعافي اقتصادات هذه المنطقة، خصوصاً اندونيسيا وماليزيا والفيليبين وتايلاندوكوريا الجنوبية، لا يبدو مشجعاً في المستقبل القريب. والسؤال المثار حالياً هو: متى تنتهي هذه الأزمة؟ ومن هي الدول الاخرى - ضمن حزمة الاقتصادات الناشئة - التي ستواجه المصير نفسه؟ لا يزال الاقتصاديون عاكفين على مقارنة ما حدث في المكسيك اواخر عام 1994 ومطلع عام 1995 عقب تدهور سعر صرف البيزو، والاجراءات السريعة والفعالة التي اتخذها صندوق النقد الدولي والولاياتالمتحدة لاحتواء هذه المشكلة، وبين ما حدث لدول جنوب شرقي آسيا وتوقع امتداد آثارها السلبية حتى السنة 2000. وستكون الحرب التي اطلق عليها رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي الاميركي ألن غرينسبان "الريح المعاكسة لعلاج المراكز المالية للمصارف في دول جنوب شرقي آسيا". The headwinds of balance sheet repair في اشارة الى مشاكل مشابهة حدثت في الولاياتالمتحدة مطلع التسعينات، التحدي الاكبر الذي يواجه القطاع المصرفي في هذه الدول خلال السنوات الخمس المقبلة، اذ ان تسوية موضوع القروض غير المنتجة Non performing Loans في المراكز المالية للمصارف وعلاج الخلل في السوق العقارية سيستغرقان وقتاً ليس بالقصير. كما ان اللجوء الى اساليب العلاج السريعة والقصيرة الاجل مثل خفض سعر صرف العملة لن يمثل حلاً جذرياً للمشكلة. ادى التدهور الحاد في سعر صرف عملات العديد من دول شرق آسيا منذ تموز الماضي الى نتائج وخيمة لحقت باقتصادات هذه الدول مثل ارتفاع سعر الفائدة، وتقليص معدل النمو الاقتصادي، وتصاعد معدل التضخم. كما ان المضاربة الشديدة التي حدثت على دولار هونغ كونغ في نهاية تشرين الاول اكتوبر الماضي فجرت ازمة في الاسواق المالية، مما ترتب عليه زيادة حادة في المخاطر السيادية للأسواق الناشئة ومما دفع بعائد سندات العديد من دول الاقتصادات الناشئة الى الارتفاع، فضلاً عن تقلص اسعار اسهمها. التوقعات المستقبلية لاقتصادات جنوب شرقي آسيا تشير التوقعات الاقتصادية لدول جنوب شرقي آسيا الى تدهور ملحوظ في معدلات النمو الاقتصادي لكل من اندونيسيا وماليزيا والفيليبين وتايلاند. فبعدما سجلت هذه الدول معدل نمو بلغ 7.3 في المئة عام 1996، يتوقع ان ينخفض هذا المعدل الى 3.9 في المئة عام 1997، والى 1.5 في المئة سنة 1998م، قبل ان يعاود تعافيه سنة 1999 ليسجل 3.4 في المئة. اما آخر الاقتصادات الآسيوية التي تأثرت بالأزمة كوريا الجنوبية، اذ أعلن العديد من مؤسساتها الافلاس، كما سادتها مشاكل عدة في القطاع المالي وخصوصاً المصرفي، مما أدى الى اعادة النظر في معدل النمو الاقتصادي لسنة 1998م ليتقلص من 6 في المئة الى 3.6 في المئة، وان كان يتوقع تعافيه في المدى المتوسط الا ان ذلك يتوقف على معالجة المشاكل التي يعاني منها القطاع المالي. وبالنسبة الى الاقتصاد الآسيوي عموماً، فيتوقع ان ينمو بمعدل 6 في المئة في سنة 1999 في مقابل 0.6 في المئة سنة 1998م، وان كان ذلك يقل عن متوسط المعدل الذي سجل خلال الفترة 93/1996م وهو 8 في المئة. انعكاسات الازمة الآسيوية على الاقتصاد العالمي لا شك في ان الازمة المالية الراهنة في دول جنوب شرقي آسيا في ظل ظاهرة العولمة وما تؤدي اليه من تعميق الارتباط بين الاسواق المالية، ستلقي بظلالها على الاقتصاد العالمي ككل. اذ يلاحظ ان ازمة العملات الآسيوية التي حدثت خلال شهري تموز وآب اغسطس الماضيين في تايلاند وماليزيا واندونيسيا والفيليبين، والتي شبهها الخبراء الاقتصاديون بالأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في القرن التاسع عشر، انتقلت الى هونغ كونغ في تشرين الاول الماضي ثم الى كوريا الجنوبية. كما ان عمليات المضاربة المحمومة على دولار هونغ كونغ المرتبط بالدولار الاميركي، وانهيار بورصة الاوراق المالية فيها وما أعقبه من عمليات تصحيحية لاسعار الاوراق المالية، انتقل بدوره الى بقية الاسواق الناشئة، وامتدت تأثيراته خارج منطقة آسيا لتشمل اميركا اللاتينية. اما بالنسبة الى تأثير الازمة على الأداء الاقتصادي للدول الصناعية فيتوقع ألا يكون محسوساً بدرجة كبيرة، ما عدا اليابان. اذ لا تتجاوز حصة الدول الاربع تايلاند وماليزيا واندونيسيا والفيليبين من اجمالي الصادرات الموجهة الى الولاياتالمتحدة 4 - 5 في المئة، فيما لا تتجاوز حصتها من الصادرات الى دول الاتحاد الاوروبي 1.5 في المئة، اما في اليابان فان هذه الحصة تبلغ 14 في المئة. وفي ما يتعلق بالصادرات الى الدول الآسيوية الأربع المذكورة، بالاضافة الى هونغ كونغ وكوريا وتايوان، فهي تبلغ 34 في المئة من اجمالي الصادرات اليابانية ونحو 16 في المئة من صادرات الولاياتالمتحدة و4 في المئة من الصادرات الاوروبية. وفي ظل تباطؤ معدل النمو الاقتصادي في اليابان مقارنة بالولاياتالمتحدة ودول اوروبا، وتدهور اسعار صرف العملات الآسيوية، فان المحصلة النهائية لهذه العوامل مجتمعة ستنعكس في انخفاض معدل النمو الاقتصادي في الولاياتالمتحدة بنحو 0.3 في المئة ليسجل 2.5 في المئة عام 1998 ثم الى 2.1 في المئة في عام 1999 اذ يتوقع ان يتم تقييد السياسة النقدية في بداية عام 1998 في ضوء تزايد العجز في الموازنة الاميركية الى 43 بليون دولار لعام 1998 في مقابل 35 بليون دولار عام 1997. اما في اليابان التي تعتبر ضمن اكبر الدول التي ستتأثر بالأزمة الآسيوية ليس فقط من خلال صادراتها، لكن ايضاً من خلال نظامها المصرفي، فبسبب ضعف الطلب المحلي سوف ينكمش معدل النمو الاقتصادي ليسجل 1 في المئة في 1998، ثم يرتفع الى 5،1 في المئة العام 1999. وبالنسبة للمجموعة الاوروبية من المتوقع ان ينخفض معدل النمو الاقتصادي بنحو 0.2 في المئة. ولا تزال الصين صامدة حتى الآن امام الاعصار المالي اذ اثبتت قدرتها على التكيف مع المستجدات الاقتصادية وان كان عليها عمل المزيد من الاصلاح المصرفي لكن انخفاض قيمة عملات دول جنوب شرق آسيا أدى الى ارتفاع نسبي لقيمة عملتها اليوان مما أضعف قدرة الصادرات الصينية على المنافسة وزاد من الصعوبات التي تواجه عملية التصدير. وتتضح الصورة اكثر اذا علمنا ان 29 في المئة من اجمالي صادرات الصين في عام 1997 اتجهت الى كوريا الجنوبيةواليابانواندونيسياوتايلاند وماليزيا وسنغافورة، كما يتوقع ان يتأثر الاستثمار الاجنبي في الصين بالازمة المالية الآسيوية لأن 80 في المئة من الاستثمارات الخارجية في الصين جاءت من آسيا في عام 1997. وبالنسبة لأثر الأزمة الآسيوية في الانتاج العالمي ككل فان الاثر سيكون محدوداً اذ لن تتأثر الاسعار العالمية بصورة محسوسة باستثنار الرز التايلندي الذي يشغل حصة كبيرة من السوق العالمية، كما ان انخفاض اسعار الاسهم الرئيسية ليس من المتوقع ان يؤثر في الطلب العالمي بصورة ملحوظة او على الناتج العالمي في معظم الدول الصناعية. ان التأثير على الدول الصناعية سوف يظهر من خلال تقليص الطلب الخارجي لهذه الدول مقارنة بالتقديرات السابقة، وسبب هذا اساساً ان المتغيرات المصاحبة للتدفقات الرأسمالية سوف تخفض من تكلفة رأس المال في الدول الصناعية. ويتزامن ذلك مع زيادة اسعار صرف العملات المحلية لهذه الدول، مما سيدفع الطلب المحلي على السلع الرأسمالية والاستهلاكية الى مزيد من الارتفاع. وفي الوقت نفسه فان المصانع ستواجه في ظل انخفاض صادراتها عما هو متوقع الى التوسع في مبيعاتها المحلية وكذلك الى الدول التي لم تتأثر بالأزمة الآسيوية معوضة بذلك جزءاً من خسارتها في مبيعاتها التصديرية. اما في الاسواق الناشئة، فان المخاطر المرتفعة والمرتبطة بانخفاض اسعار اسهمها سوف تزيد من تكلفة رأس المال، وسوف تكون جزءاً من عملية الكساد والركود المتوقع حدوثه في هذه الدول. ان انخفاض اسعار عملات الدول الآسيوية سوف يزيد من قيمة فاتورة وارداتها خاصة من السلع الرأسمالية، كما تزيد من تكلفة رأسمالها، فضلاً عن زيادة تكلفة العمالة بها، الامر الذي سينعكس على ارتفاع معدلات التضخم في الدول الآسيوية مجتمعة اذ من المتوقع ان يسجل معدل التضخم في عام 1998 زيادة من 4،5 في المئة في آب 1997 الى 9.7 في المئة هذا الشهر. تأثير الأزمة الآسيوية على المنطقة العربية كان للأزمة الآسيوية وقع على المنطقة العربية من زوايا عدة: الاولى تتناول نموذج التنمية الذي كانت تمثله دول آسيا للدول النامية خاصة المنطقة العربية من جهة قدرتها خلال فترة وجيزة على تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة حتى اطلق عليها اسم "النمور الآسيوية"، وباتت بذلك مثالاً للعديد من الدول العربية لتجاوز كثير من العقبات، وتهيئة المناخ الملائم للاستثمار، بل وفي منافسة الدول الصناعية التقليدية في اسواقها. اما الزاوية الثانية والاهم والتي من خلالها ستؤثر الأزمة الآسيوية في المنطقة العربية خاصة الخليجية منها فهي من خلال الانخفاض في توقعات النمو الاقتصادي في الدول الآسيوية، وانعكاسات ذلك في انخفاض الطلب على النفط العربي، اذ كان معدل نمو الطلب على النفط في دول آسيا خلال التسعينات 9.5 في المئة مقارنة بمعدل نمو الطلب العالمي البالغ 1.5 في المئة، واستحوذت دول آسيا على 60 في المئة من الزيادة في الطلب العالمي البالغ سبعة ملايين برميل يومياً خلال الفترة 90/1997، بينما كانت حصتها في النمو الاقتصادي العالمي نحو 3.3 في المئة خلال الفترة المذكورة، بل ان دول شرق آسيا، بما فيها الصينواليابان، تشكل 25 في المئة من الطلب العالمي على النفط. وتبعاً للنمط التاريخي في الطلب على النفط سيؤدي انخفاض معدلات النمو في آسيا وتأثيراتها الدولية، اضافة الى عدم مقدرة بعض مستوردي النفط الآسيويين الحصول على الضمانات المصرفية اللازمة لعملية الاستيراد في ضوء الازمات التي تعصف بالقطاع المصرفي في هذه الدول، سيؤدي ذلك كله الى انخفاض الطلب على النفط خلال العام الحالي 1998 بنحو نصف مليون برميل يومياً وستتراجع الزيادة في الطلب العالمي على النفط من مليوني برميل يومياً في عام 1997 الى 1.5 مليون برميل عام 1998 مع ما يصاحب ذلك من تأثير سلبي في الاسعار نشهد منذ بداية السنة الحالية تداعياته وتأثيراته السلبية في ايرادات الدول العربية النفطية وفي موازناتها المالية، بعدما اصبحت مستويات الايرادات النفطية الحالية والمستقبلية في المدى القصير غير قادرة على الوفاء بحاجات الانفاق العام في دول مجلس التعاون الخليجي. وتشير التقديرات الى ان العجز في موازنات دول مجلس التعاون الخليجي من المتوقع ان يرتفع بحوالى 60 في المئة ليصل الى 12.4 بليون دولار في مقابل 7.8 بليون دولار في عام 1990، بل من المتوقع ارتفاع العجز في السنوات المقبلة اذا استمر التدهور الحالي لأسعار البترول خصوصاً ان معظم دول المجلس وضع موازناته لعام 1998 على اساس ان سعر البرميل يراوح بين 12 - 15 دولاراً، بينما هبطت اسعار البترول الى ادنى مستوى له منذ ثلاث سنوات لتسجل 12 دولاراً للبرميل في يناير 1998، بل ان سعر برميل خام برنت انخفض من اكثر من 20 دولاراً قبل عام الى أقل من 13 دولاراً للبرميل في الوقت الحالي، كما يعزز هذا الانخفاض توقع عدم عودة التوازن في اسواق النفط في النصف الثاني من العام الجاري في ضوء احتمال عودة النفط العراقي الى الاسواق من جهة سمحت الاممالمتحدة بزيادة قيمة صادرات العراق النفطية الى خمسة بلايين دولار، والى عدم التزام بعض الدول الاعضاء في منظمة اوبك الحصص الانتاجية المقررة فضلاً عن زيادة سقف الانتاج في منظمة اوبك مع بداية عام 1998 من 25 مليون برميل يومياً الى 27.5 برميل. والجدير بالاشارة ان دولة الامارات العربية كانت اعلنت موازنتها للسنة الجارية 1998 بواقع 5.82 بليون دولار، مع عجز يبلغ 0.84 بليون دولار، فيما سجل الانفاق في عام 1997 5.61 بليون دولار والعجز 4.8 بليون دولار، كما بلغ الانفاق في موازنة الكويت 15.92 بليون دولار بعجز يقدر بنحو 5.2 بليون دولار مقابل 14.6 بليون دولار والعجز 4.25 بليون دولار. وفي عمان بلغ حجم الانفاق في الموازنة 6.1 بليون دولار بعجز يقدر بنحو 0.78 بليون دولار في مقابل انفاق بلغ 5.96 بليون دولار وبعجز يصل الى 0.69 بليون دولار، في حين يتوقع ان يبلغ حجم الانفاق في موازنة قطر للسنة الجارية 1998 نحو 4.8 بليون دولار بعجز يقدر بنحو 0.95 بليون دولار مقابل انفاق يبلغ 4.5 بليون دولار وبعجز يقدر بنحو 0.82 بليون دولار، وفي البحرين بلغ الانفاق 1.86 بليون دولار بعجز يصل الى 0.20 بليون دولار في مقابل انفاق بلغ 1.82 بليون دولار وبنسبة العجز نفسها. اما في المملكة العربية السعودية فتشير التقديرات الى انخفاض ايرادات موازنة 1998 الى 178 بليون ريال 47.5 بليون دولار في مقابل 204 بلايين ريال 54.4 بليون دولار تم تسجيلها في عام 1997 وبانخفاض نسبته 12.7 في المئة، والى تزايد نسبة العجز في موازنة 1998 الى 18 بليون ريال 4.8 بليون دولار مقابل عجز بلغ ستة بلايين ريال 1.6 بليون دولار في موازنة عام 1997. اما اجمالي النفقات لموازنة عام 1998 فمن المقدر انخفاضه الى 196 بليون ريال 52.2 بليون دولار بعدما سجلت 210 بلايين ريال 56 بليون دولار في موازنة عام 1997 أي بانخفاض نسبته 6.7 في المئة اذ انخفضت النفقات الرأسمالية مشاريع بما فيها دفع متأخرات الى حوالى 45 بليون ريال 12 بليون دولار، في مقابل 60.8 بليون ريال 16.2 بليون دولار في عام 1997. ولا شك ان هذه الآثار السلبية للأزمة الآسيوية وانعكاساتها على الايرادات النفطية لدول الخليج الست دعوة لتبني محاور اساسية لتحقيق استراتيجية النمو الاقتصادي الاقليمي الخليجي التي ترتكز على توجيه النشاط الاقتصادي غير النفطي للتصدير والاعتماد على الانتاج للاسواق الخارجية اكثر من الاسواق المحلية، والاستفادة من تزايد قوة العمل الوطنية ورفع انتاجيتها عبر التعليم والتدريب وتوفير عناصر الانتاج المكملة والضرورية، فضلاً عن رفع معدلات الاستثمار، وبناء آليات للنمو وإيجاد مناخ جيد لتشجيع الاستثمارات خاصة الاجنبية في دول المجلس.