وصف "هنري برجسون" الفن بأنه عين فاحصة كإدراك مباشر يتيح للفنان القدرة على النفاذ لباطن الحياة، وإزاحة النقاب عن الحقيقة خلف ضرورات الحياة العلمية، ليصبح الفن حيلة لتأمل المحيط والتحرر من الواقعية المسطحة، لصالح إبداع مستقل ذي وجود جمالي فاعل يعبر عن الحقائق الجوهرية للأشياء أو المصورات المدركة فنياً، وتمثيل قيم عميقة تتخطى حدود الشكل والصورة، بهدف التجسيد الحقيقي للفكرة، والعبقرية الفاعلة للتمثيل بشكل ملموس، ومصور لما يتحرك في الروح الإنسانية، وسعى للتحرر من هيمنة الواقع والطبيعي والسطحي. حيث تنبثق أهمية "الأبستمولوجيا" كنهج لتبرير المعتقد، وأسباب وجود تلك الحقائق والدراية بطرق تكوين المفاهيم وتحولها وكيفية تبادلها ومهارات المعرفة الإجرائية أي حقائق المعارف الافتراضية (معرفة المعرفة) ودراسة الأحكام والقواعد التي يعاد بمقتضاها تنظيم تلك المفاهيم والمعارف وارتباطها بالترميزات. وتتفرع المعارف (للمعرفة البديهية) وتشمل الحدس والإيمان والمعتقد والمشاعر الإنسانية التي تلعب دور رئيس في بناء المعرفة البديهية، (والمعرفة المنطقية) لبناء معارف مستحدثة من تطبيق التفكير المنطقي، (والمعرفة التجريبية) التي تنبثق من الحقائق الموضوعية التي تم إنشاؤها. و"ابستمي" أي المعارف والعلوم، "لوغوس" أي النظرية والدراسات المنهجية والسببية، فتصبح "الأبستمولوجيا"هي نظرية المعارف أو فلسفة العلوم، واستخدام ذلك لتلمس نتائج جديدة، عبر الاستناد لأسس فلسفية وعمليات التحليل والقراءة والاستدلال والاستقراء ومنهجيات مؤسسة للاعتماد على العقل والمنطق كمصدر للمعارف والخبرات والتجارب الشخصية والديالكتيك المنبثق من التفاعلية بين الأفكار المتنوعة، وأنثربولوجي الثقافات والعادات، بهدف الولوج للحقيقة والمعنى والمعرفة التي هي غاية كل الرحلات الفكرية وركيزة من دعائم الوجود الإنساني للارتقاء بأسلوبية الحياة. لتتعاظم ترابطية العلاقة بين (المعرفة والواقع) و(الواقع والعقل البشري) و(البحث والسياقات البيئية والثقافية التي تشحذ المعارف)، وتشكيل كيفية بناء التجربة الفنية من منظور معرفي، وتوضيح طبيعة الفن كوسيلة للتواصل الفكري والعاطفي، وطرق إدراك الفن، والتفسير الفني للعلاقة بين الفن والجمال والمعنى والتفسير وطبيعة الخبرة الجمالية، للنفاذ لصفاء الشكل وحبكة التكوين وتطهير الأشكال من خصائصها العضوية والطبيعية، والتجرد من التفاصيل الزائدة، للإمساك بالنقائية وجوهر الحقائق لبلورة مدركات بصرية تتغذى من أحاسيس وخبرات الفنان لتدشين منظومات ذات مستوى أدبي شعري. الظاهر والضمني والمحتوى الفكري الإنساني لدى "أحمد طلاع": ومن خلال نظرة عميقة شمولية (لا ينطلق الفن من المواقف واللحظات العابرة العارضة)، فالفن هو التجسيد الجميل للشيء، وليس تقمصاً للطبيعة وتغنياً بها بل ذاتية تحركها إرادة التسامي، لذا لا تستمد الجمالية من الطبيعة، وإنما من ذات الفنان الخلاقة وتفكيره، ليصبح الفن وسيلة وحيلة لتأمل المحيط والتحرر من الواقعية المسطحة، لصالح إبداع مستقل ذي وجود جمالي فاعل يعبر عن الحقائق الجوهرية للأشياء أو المصورات المدركة فنياً، وتمثيل قيم عميقة تتخطى حدود الشكل والصورة الظاهرين. ففي جاليري "مرسمي للفنون" بالرياض، استعرض مشروع الفنان "أحمد طلاع" سحر تشكيلي متعدد الرؤى والدلالات، وتعبيرية مصيرية حتمية تنبع بصدق من نفسية الفنان وذاتيته بعد أن ينسجها إلهامه وخبراته السابقة وبحثه العلمي والفني في قوالب فلسفية رصينة تعززها أشكاله التعبيرية الفصيحة، ومساحة بصرية تفاعلية وكأنها تمتلك أبعاداً حقيقة ملموسة، تجعل من العمل إطاراً تسجيلياً لمسحة تعبيرية تصب في تجسيد انفعالات وإيماءات عديدة، ولحظات الاستغراق في التفكير والاختلاء بالذات وتجسيد براثن المعاناة وقساوة المواقف، لاجتذاب وجدانية المتلقي وإشراك حسه الشعوري والعنصر البصري له. وبقدرة مكينة لاقتحام التشكيل المعاصر بأسلوب حديث، استدعى الفنان في أطروحاته، توليفة تصويرية داخل إطارات من التباينات التعبيرية الكاسية (للوجوه المتماهية) والدرجات الرمادية (الترابية) التي صهرت تلك الوجوه داخل طقس فضائي يدفع الأشكال أحياناً ويجاورها، ويبتلعها ويسيطر عليها أحياناً أخرى، في دينامية سمعية بصرية تفصح عن تمكن الفنان من عباراته البصرية، بما يخصب دائرة العمق التأملي للوجوه الآدمية، وتوسيع ممرات تدفق الأفكار، وتعضيد وجود الوجوه الآدمية داخل فراغاته المصاغة بحس جليل، وتقنيات احترافية لضمان زراعة العناصر داخل مجال مغناطيسي، مندمجة مع خطوط تشهيرية تلقائية تعبيرية، تجعل العمل ينبض بالحياة. وعبر قدرة الفنان وتمكنه من استيعاب تعاليم الحداثة المتوازية مع تأصيل الهوية، جاءت الشخوص معزولة فرادي، تعبر عن حالاتها النفسية والتي دعمتها متغيرات وتحولات جذرية في الهيئة البنائية والجمالية والفلسفية للعمل وممارساته الإبداعية، وتقنيات الفنان وخبراته في إحكام المساحة التصويرية، وإعلاء الأجواء الدرامية لتوظيف الفاتح والداكن وتوزيع الخرائط اللونية الباردة والساخنة وقوة الألوان وطاقاتها التعبيرية، والتركيز على لغة التباينات التي يصنعها تجاور الدرجات والخطوط مع المساحات والكتل الرمادية والملونة، وتنظيم الرحلة البصرية للعين داخل العمل وفضاءاته الميثولوجية وامتلاك مقومات السيطرة على الأدوات، والقدرة على سرد التفاصيل التي تبرز الشكل الخالص. فجمالية البناء الشكلي لديه ضرورة لمنح الحضور ودعم الرسائل والمضمون وتوكيد المعاني بما يشحذ البناءات المعرفية المتشكلة في أفق الاستقبال والإدراك عند المتلقي وطرق استنباطهم للمرمى المعرفي والأيدولوجي المقصود، ليتحولوا من سكونية التلقي للمشاركة والاندماجية في دينامية العمل، ارتباطاً ببنى فوقية أيدولوجية وبنى جمالية، وسياقات ساحرة تنبري منها عناصر الفنان. لذا عمد "أحمد طلاع" لتسطير أفكار حيوية للفراغ، فجاءت خلفيات عناصره ذات درجات رمادية والأصفر المائل للأوكر، كدرجات لونية حالمة فاتحة هادئة تنشر السحر والأثيرية والأسطورية، وتدعم احتفاء الجانب الروحي الأسطوري، خلال توزيع درجات اللون بحكمة في سيمفونية رقيقة داخل إطار الأشكال وخارجه، وتسجيل الأثر المباغت الذي ينجم عن الرؤية وتسجيل الانفعال، وتشكيل مناخ تسكنه الحقائق التعبيرية الشكلانية، لتنمو فيه شحنات العمل والتعبير النابض لتعزيز الفعل الحركي والتعبيري الانفعالي للمساحات والكتل اللونية العاطفية، والخطوط اللينة التي تعبر عن التجسيم والحركة والعمق، لتصدير الانفعالات التي تختلج بذات الفنان (كالترقب والتأهب والخوف والقلق والحزن) كمشاعر إنسانية مقروءة وغامضة أحياناً. *الأستاذ بقسم الفنون البصرية والرقمية المساعد من أعمال أحمد طلاع