قرأت مرارًا وفي عدة أماكن عن الارتباط الروحي بين الأمهات ونبات الريحان، وعن العلاقة الأزلية بينهما، وفي الحقيقة أن في كل مرة يكون لتلك الكلمات وقعٌ عميق في روحي، وأثرٌ بارع في داخلي، وذلك لبلاغة الوصف، ولعمق الشعور، ولأن أمي أيضًا تحب الريحان، وتزرعه، وتعتني به، بل تجفف بذوره وتُشَتِل منها شجيرات ريحانٍ جديدة، ليست أمي فحسب بل جدتي وعمتي وخالتي وجارتنا القديمة، ومعظم السيدات الكبار في السن، خاصةً سيدات الجنوب، فالريحان منذ الأزل يحيط بالأمهات والحكايات والذاكرة، يحيط بجدائلهم العتيقة، وحقائبهم، وشرفاتهم، أيضًا يقومون بتجفيفه كوسيلةٍ عطرية طويلة الأمد ويضعنه بين أرديتهم ووسائدهم، فهو من أهم موارد الزينة والجمال آنذاك، علِقت رائحته بهم، فنشأ ذاك الارتباط الشرطي، فحيث الريحان تكون الأمهات، فقد تعاملن معه كنمط معيشة، وكأحد مقومات الحياة، إذًا هو لم يكن شجرة فحسب، بل هوية وثقافة وتقاليد، حين تدرجت بذاكرتي أدركت بأن للريحان وقاره ومكانته، فقد بدأ قديمًا في باحة المنازل، وبين عمائم الرجال، وبداخل أوان الزهور، ومع هدايا النساء في القرى، ومازال مستمرًا حتى الآن وكأنه إرثٌ متداول، حتى إنه يُوزع في بعض المناطق في الأفراح والمآتم، فلم أعد أعرف هل هو دلالة بهجة أم تعاسة، أم أنه الكائن المحايد الذي لا ينتمي للفرح ولا للحزن، لذا يقف مجاورًا لكليهما وكأنه مصدرًا للراحة والأمان والاطمئنان، لو عدنا إلى تاريخ هذه النبتة سنجد أن خواصها الكيميائية، ورائحتها العطرية سببًا كافيًا لاقتنائها، ولكن لماذا استمرت رغم وجود العطور والبدائل للزينة، ورغم هذا التحديث الزمني الهائل! لماذا بقي الريحان رائجًا وكأنه أحد موارد الأرض المتجددة ذاتيًا؟ باختصارٍ شديد لأنه ثقافة وذاكرة وتقاليد، ولأن الإنسان الحقيقي يرتبط جيدًا بتاريخه، وبمكونات نشأته الأولى، ربما هو وعي جمعي ولكنه في اعتقادي وعي إيجابي، لأنه يحافظ على المكتسبات الثقافية بصورها المختلفة، ويُحيي الموروث الأصيل، ويمنحنا أيضًا فرصة للتعرف على العادات القديمة وعلى جهود الإنسان في ظل بيئاتٍ متواضعة، ذلك الوعي نقل لنا تلك الأعراف المبهجة، فلم تمت رغم عبور مئات السنين عليها وظلت تحمل عبقها العتيق، لا أعرف التاريخ الفعلي للريحان، ولكن بدا لي أن تاريخه مجيد، وأن له قدرة على استدعاء الذكريات، فالروائح بالعموم أيًا كانت لا تتصل بجهاز الشم فقط بل تتصل أيضًا بواسطة الخلايا العصبية بالدماغ الذي يعيد لنا الارتباط بذكرياتنا المختلفة، لذا تبدو لنا صور الأمهات وأصواتهم عند رؤية الريحان أو شم رائحته.