تمارس المدن ما يشبه الغواية على الكتاب والمبدعين، غواية تصل أحياناً إلى حد التسلط، الذي لا فكاك منه، سوى بالكتابة عنها."باهيا"جورج أمادوا،"دبلن"جيمس جويس،"نيويورك"بول أوستر،"روما"البرتو مورافيا... مدن عالمية احتلت حيزاً واسعاً من اهتمام ومشاغل كتابها. والحال نفسها تنطبق على كتاب عرب مع مدنهم: دمشق، بيروت، عمان، صنعاء، الرياض. تصبح الكتابة عن المدينة مدخلاً للكتابة عن الذات والعالم. ليفهم الكاتب ما يمور في أغوار نفسه، يتجه إلى ملامح من المدينة، ليجلوها ويكتبها. على أن الجانب الأكثر حيوية في هذه المدن هو الرائحة. روائح المدن أشبه بالبصمة التي تميز مدينة عن أخرى، وتطبعها بطابع الخصوصية. تتفنن بعض المدن في أنها تسكن الذاكرة، فتبدو بعدها وكأنما أنت مجبر على ارتيادها من وقت لآخر، ويستوطن في داخلك إليها نسيجاً من حنين ولا تبدو كل مدينة قادرة على أن تمتلك هذه الميزة. فهناك مدن تسكننا وإن كنا لا نسكنها. وأبدع الراحل محمود درويش في توثيقه لروائح مدن مر بها وكتب عنها في كتابه"في حضرة الغياب". "المدن رائحة... عكا رائحة اليود البحري والبهارات، حيفا رائحة الصنوبر والشراشف المجعلكة. القاهرة رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والألبان. وكل مدينة لا تعرف من رائحتها لا يعول على ذكراها". تركي الحمد صاحب"رائحة الجنة"و"أطياف الأزقة المهجورة"تحدث بحنين عن روائح مدن امتزج بها، فقال:"هي مدن وليست واحدة. أربع مدن في زمانها تسكنني رائحتها: الدمام، عمان، دمشق، وبيروت. ففي الدمام نشأت، وفي أزقتها لعبت، وعلى شواطئها غفوت، وأنا أتحدث عن دمام العدامة وحي الدواسر و"كمب"البدو و"كمب"الشركة، وشارع الحب وأرامكو، وشاطئ نصف القمر، وليس الدمام الحديثة التي على رغم جمالها الظاهري، فهي بلا لون أو طعم أو رائحة بالنسبة لي. الدمام القابعة في الذهن هي الأصدقاء، والمغامرات، والضحكات، والخبز"الهولي"مع الشاي بالحليب. أما رائحتها فلا توجد كلمة أستطيع أن أصفها بها، إذ إنها رائحة ذكريات. رائحة روحية غير موصوفة. وعندما أذهب إلى الدمام اليوم، أحرص دائماً على شم الخبز الهولي قبل أكله، والتسكع في ما بقي من أحياء قديمة، وتأمل الشمس وهي تغيب على ساحل البحر، ففي هذه الأشياء أشم رائحة الدمام التي تسكنني، رائحة دمام أصبحت ذكرى، وطيف كان ثم ذهب. أما عمان، فإنني كلما شممت رائحة الخبز الأبيض الطازج، أشعر أنني عدت إلى عمان عندما رأيتها للمرة الأولى وأنا طفل صغير، فهناك أكلت مثل هذا النوع من الخبز للمرة الأولى، وهناك ذقت حلويات لم أعهد مثلها من قبل، وهناك كانت أمطار شديدة لم أشهد مثلها من قبل، ولذلك عندما تهطل الأمطار اليوم، فإن ذهني ينجرف إلى عمان تلك الأيام، عمان الطفولة الباكرة. رائحة عمان التي تسكنني هي رائحة البراءة، رائحة الطفولة الباكرة، لا هم ولا غم، بل هي المتعة المطلقة. أما دمشقوبيروت فإن رائحتهما تقفز إلى الذاكرة مع رائحة كتاب قديم". تلك رائحة القرية وتحدث القاص محمد علوان عن رائحة لا يمكن حصارها، رائحة تملأ القلب بالدفء، وتدخل الذاكرة فتبني لها عشاً تؤثثه ثم تمد ساقيها لتقرأ دقائق العمر المقبل. يقول:"إنني ذلك القادم من أبها لا يعرف قانون ذلك الوادي، ولا قانون تلك الشجرة التي تثمر، حين سألني صاحبي: هل ترغب أن تقطف ثمرة تين؟ أجبته كمن يدخل مجهولاً وبصوت مرتعش: نعم، أخذ يمد يده ليقطف ثمرة يانعة. ثم قطف ورقة تين، ضغط على الثمرة بأصابعه فإذا بدم ابيض يخرج منها، قال لا بد أن تمسح الدم الأبيض بهذه الورقة، ولم أعرف المعنى، ولم أدرك المغزى، هذا ما حدث، حينها التقطت رائحة وادي التين في تلك القرية، تلك الرائحة التي دخلت القلب ولم تغادره، الرجال والنساء تختلط روائحهم المتعددة، البدويات بلباسهن الأسود، ورائحة خفية بطعم العسل والسمن، مخلفاً في الذاكرة إيقاعاً لا ينسى، ورائحة الحناء والكادي ومزاهر الريحان تكاد تفقده صوابه، وعيون البائعات يروجن للفاكهة والرائحة والأماني العذبة تلك رائحة القرية". أما مؤلف"أفخاخ الرائحة"فبلا شك أن تجربته مع روائح المدن لها نكهة أخرى، يقول يوسف المحيميد:"نعم مدينة لا تعرف من رائحتها لا يعول على ذكراها، فالرائحة لا تقود إلى المدينة فحسب، بل تقود إلى المرأة أحياناً، رائحة المرّة والحلتيت والصبر تقودني إلى أمي، رائحة الكمَّون تعيدني إلى خالتي موضي وأزقة الشميسي القديم، رائحة دهن العود الكمبودي تجعل ذاكرتي تقبض على غترة أبي البيضاء نهار الجمعة، رائحة النعناع تضع وجه أختي لطيفة القمري أمامي فوراً، رائحة الميراندا تضعني أمام وجه صديق الطفولة مشعل العيادة، رائحة كرة الجلد المتفسخ تعيد إليّ أخي الأكبر محمد المهووس بكرة القدم، رائحة عرق الجوارب تذكّرني بحصة الرياضة في ابتدائية الجاحظ، وهكذا. والآن لا أستطيع أن أتذوق المطبق مثلاً من دون أن تحضر عليشة وأم سليم فوراً في ذهني. وليس صحيحاً أن مدناً كالرياض ومكة والخبر بلا رائحة، وبلا ذاكرة، فالرياض رائحة الرغيف وأشجار الكينا، وبريدة رائحة التوت والتمر المكنوز، والاحساء رائحة الطلع وحريق جريد النخل، وجدة رائحة البحر وزخم السمك والرطوبة الثقيلة، والخبر رائحة القوارب والصيادين وجرادل الربيان، والظهران رائحة النفط والدخان وهكذا لكل مدينة صورتها ورائحتها في ذاكرة كل منا، فتختلف هذه الرائحة من شخص لآخر، بل إنها قد تختلف لدى الشخص ذاته من زمن لآخر". الشاعرة ميسون أبو بكر كتبت حنينها الى رائحة مدن التي سكنت ذاكرتها، قائلة:"آه لتلك المدن التي أغادرها ثم لا تغادرني أبداً، تسكن بأشيائها الصغيرة سراديب الذاكرة ، ما ان أغلق عيني حتى تصيح بي أشواقي وحنيني، عودي أيتها المرأة التي تتلثمين الصحراء، وتستوطنين البحر الذي لا يهدأ في سطرك وحرفك ومشوارك. فمن أشرعتك إلى مرافئك إلى الضفاف التي هي بانتظارك أبداً، المدن نساء، والخرج هي المرأة الجميلة الملتحفة نضارة الطبيعة، وجمالها تتألق بالتلال المتشحة بشال رملي دائم التموج، فلا تهدأ رمالها إلا إن ابتلت الأرض بالمطر، فتلتصق الرمال بالأرض وكأنه موسم سباتها، نحن في مدينة تعب في أمواجها الرملية الجمال، وتصهل الخيول في مراعيها، وتسكنها بيوت الشعر والبداوة العربية التي بقيت تذكر بوجه قديم لتراث عربي قاوم زحف الحضارة التي غيّرت وجه المدن". ويبدو الشاعر احمد الواصل كمن خزن روائح الرياض الحميمة، ووضعها في زجاجة، يقول:"في المدرسة هناك رائحة ملكة الليل، التي نفرك أوراقها الخضراء بأيدينا، كلما مررنا متثاقلين إلى طابور الصباح، لا تنفك عن أنفي ذلك الصبح في ممر مكتب الفراش، رائحة الشاي الخامر بسكره المحروق، رائحة الأسواق تبقى نفاذة بالأقمشة والكراتين وأكشاك البليلة، رائحة الشوارع مختلطة بالعرق والطبخ والبنزين. الرياض رائحة العطور الحارة والأجساد المعروقة. رائحة العباءات والطرحات الباردة والنافرة. رائحة قرص خبز وبخار المغسلة عندما أكوي شماغي كل ليلة سبت. الرياض مليئة بالشاورما وخبز التميز. رائحة قلي البطاطا وهمبرجر اللحم، إنها مدينة الروائح". الروائح هدايا مشروطة وتجيد الروائية منيرة السبيعي رسم حنينها إلى الوطن، ورائحة الرياض التي لا تغادرها"روائح المدن هدايا مشروطة، لا تُعطى للعابرين، تتطلب إقامة وجدانية في قلب المدينة، كي تسمح لك بتنشقها، كي ترشّك بما تخبئه خزائن حكاياتها، هناك مدن خرجت منها دون أنتشي برشة عطر، وتبقى الرياض هي السُكنى الأكيدة، التي لازمتني دائماً حتى وأنا بعيدة عنها، أجد عطورها مدسوسة في ثنايا حقائبي، تُباغتني بالحضور إذا ما مسني الشوق لتنتصب الرياض حاضرة غير آبهة ببعد المسافات، للرياض تفاصيل فواحة، تنسكب من فناجين القهوة المعطرة بالهيل والزعفران، ومن أبخرة العود والعنبر المُتسللة عبر خصلات شعر تلك المدينة الغامضة".