تتهافت الخطى مع بزوغ شمس العيد نحو المساجد والمصليات في مشهد روحاني إيماني خالد، لأداء الصلاة وسماع الخطبة وما إن يفرغ الخطيب حتى يتبادلون التهاني والتبريكات قبل أن يقصدوا أقرب الناس وأحبهم لقلوبهم، ومع تعدد مظاهر الفرح ومشاهده يبقى التلاحم الوجداني والتقاليد الأصيلة والتجمعات العائلية سحر المناسبة ووهجها السعيد، كما أن انبعاث روائح البخور والطيب من المنازل نحو الأحياء والطرقات والأزقة يضيف للأجواء الجميلة عبقا مفعما بالمحبة ويعزز مورثا أصيلا وتراثا ثريا بالعادات والتقاليد الأصيلة، أما موائد الإفطار فلكل منطقة من مناطق المملكة قصة مع الموائد التراثية والأكلات الشعبية التي تتباين مسمياتها وطرق تحضيرها وتلتقي جميعها بغناها بالحلويات، ويتفرد العيد في المدينةالمنورة بطابعه الخاص ونكهته المتميزة، رمزية خاصة تمتزج بها فرحة العيد قديما بتقارب القلوب ونقائها وسهولة الحياة وبساطتها، طقوس تراثية وفضاءات غنية بالموروث الثقافي ما زال يستحضرها كبار السن وتداعب خيالات المؤرخين، الصور والمظاهر الجميلة لم تندثر جملة واحدة بل بقي جانب أصيل منها مرتبطا بالمسجد النبوي الشريف الذي يأتيه الجميع باكراً في أول أيام عيد الفطر المبارك، مصطحبين عائلاتهم وأطفالهم، وقد تزينوا جميعا بلباس العيد تعلو وجوههم بشائر الفرح والسعادة بإتمام الصيام والقيام، فتحتشد القلوب قبل الأبدان، ويزدحم الحرم الشريف بمبناه القديم وتوسعاته المتلاحقة وأروقته وسطحه وساحاته، ويتحول المكان بعد أداء الصلاة والاستماع للخطبة إلى أكبر ملتقى للمعايدة وإظهار الفرح، وتبادل التهاني والتبريكات، فلا حواجز عرقية، ولا فوارق لونية، يجمعهم دين عظيم يقوم على التعايش والتسامح والسلام، وتجسد بعض الأحياء والمواقع صورا من الماضي الجميل لطيبة الطيبة يستعيد فيها الأهالي ذكرياتهم القديمة، وقد أحسنت جمعية مراكز الأحياء بالشراكة مع أمانة المنطقة في إطلاق العديد من البرامج والمبادرات ومنها لقاءات المعايدة الصباحية والمسائية في عشرات المواقع لتعزيز العلاقات الاجتماعية وتقوية أواصر اللحمة الوطنية، وهي محاولة جادة لإعادة ملامح العيد القديمة كما يذكر بعض المؤرخين المدنيين والتي ارتبطت وثيقا بالتجمعات، التي كانت تقام قبل عدة عقود في باب الكومة ثم انتقلت إلى حي السيح ليطالها الاندثار لاحقا، حيث المراجيح باختلاف أشكالها وأحجامها والتي تناسب مختلف الأعمار، والعربات المزينة التي تجرها الدواب من أحصنة وحمير وبغال، والتي تصدح منها أناشيد الفرح بحناجر الأطفال، وعلى هامش مهرجان العيد هناك ألعاب شعبية تجمع الناس على الحب والتآلف والتواصل، ويرتبط العيد دوما بالوالدين، فمن منزلهما تنبعث الأفراح وتشع السعادة ويرتسم العيد بألوانه الجميلة، قبلة على الجباه والأيدي، ودعوات بطول العمر، وعادة ما يقصد الأهالي أسن العائلة في المنزل الكبير الذي يجمع الأقارب، ويتحلقون حول مائدة الإفطار الجماعي، والسعادة تأخذهم كل مأخذ، يعقبها جولات على بيوتات الحي من أقارب وأصدقاء وجيران بوجوه ملؤه البشر، وفي المساء ترتاد العائلات مواقع الفعاليات والاحتفالات أو تقصد الضواحي والمنتزهات لبرنامج يلتئم فيه الأقارب والأصدقاء، أما العيد لدى الصغار فهو الألعاب والحلوى و"العيدية"، فرحتهم في العيد تتجاوز هموم الكبار، لترسم ابتسامات صادقة على وجوههم تنم عن فرح غامر تزهو به نفوسهم الصافية النقية، ولأن الأعزاء لا يغيبون فإن العيد يستثير إلى جانب الفرح كوامن الحزن في النفوس لكل من فقد عزيزا لديه، فالوفاء والمحبة لا تنتهي بغياب الأعزاء، بل هم حاضرون في القلب والوجدان باقون حتى الملتقى الأخير، لذلك يعمد البعض إلى زيارة أحبتهم في بقيع الغرقد لإلقاء السلام والدعاء بالرحمة لأحبة قاسموهم أفراح الأعياد زمنا، فتهطل الذكريات الحزينة بغزارة من غيوم ملبدة بالأشواق إلى أم حنون وأب رحيم وأخ محب، وصديق وفي، فتختلط المشاعر وتمضي بهم بعيدا حتى يستدركهم الإيمان واليقين بأن الفرقة العابرة سيتبعها اجتماع أبدي، تتبعها دعوات ضارعة إلى الله سبحانه وتعالى بأن تكون مراقدهم رياضا من الجنة تسكنها أرواحهم النقية.