تبث موضوعة التشرد الحيوية في أعمال «لويس فرديناند سيلين – Louis Ferdinand Céline» (1894-1961)، وتتمظهر من خلال ثلاثة أشكال: ابتداءً بتجسيدٍ للتشرد في رواياته الأولى («سَفَر إلى آخر الليل» على سبيل المثال)، قبل أن تستحيل كتابته – بعد أن حادت عن مسارها الأول – إلى مقالات نقدية لاذعة (كتابات معادية للسامية) يُلمَس فيها، من منظور آخر، نوع من التشرد على مستوى الحِجَاج؛ من حيث إن الناقد يحشو نقده، ساخطا، بجُماع هواجسه. وإلى هذا «التيه» في الكتابة يعود الفضل في جعل «سيلين» ذلك الكاتب الشيطاني الملعون الذي نعرفه؛ رجل تائه في خضم «متاهة الإيديولوجيات». ومع انهيار النازية، خاف «سيلين» على حياته؛ ففر خارج فرنسا متشردا في أوروبا الملتهبة بسبب الحرب العالمية الثانية. ولا يمكن أن يُنكِر باحث ما لفضاءات العبور وأمكنته (مرافئ، ومحطات قطار، وأنهار...) من أهمية قصوى لفهم الأعمال الروائية ل»سيلين»، تماماً مثل أهمية محطات التوقف (فنادق، وأكواخ...) التي تشكل ملاجئ؛ بل «لا - أمكنة» في مسيرة الشخصية المتشردة. بَيْد أن التشرد لا يقتصر على مظهره الفيزيقي المادي الملموس (سواء أتعلق الأمر بتشرد الشخصيات في الحكي، أم بتشرد «سيلين» نفسه في زمن كان فيه الرايخ الثالث يلفظ آخر أنفاسه)، بل إنه تشرد في المتخيل السِّيلِيني، يكون في الغالب بسبب الحمى، وبتأثير من هذيان يذهب به رأسا صوب الهلوسة والعجائبية. فقد درج «سيلين» على الخلط بين الواقع والهذيان؛ هو الذي عانى بسبب دراعه ورأسه منذ أن أصيب إبان الحرب العالمية الأولى (1914-1918)؛ مما أفرز كتابة – هي الأخرى – مكلومة، وهذيانية، ومهلوِسة، شبه «غرائبية»، وعجائبية حتى نستعيد كلمة عزيزة على الكاتب. وفي أغلب الأحيان، يُعلَن عن العجائبية لدى «سيلين» من خلال «رجفة مَهيبة» تسمح بالولوج إلى حالة ثانية تسودها الخفة والعفو – عالم ينخرط فيه الأشخاص والأشياء في الرقص. إذا كان التشرد «التجريبي» بدون مآل، فلننتظر «وقاحة» كونية. لقد مكَّن التشرد في عالم الكتابة من إبداع روائع أدبية، جعلت «سيلين» واحدا من أكبر كتاب القرن العشرين.