لا شيء أنقذه من التّشرد غير الأدب، ولا شيء منحه سقفا ومكانة في المجتمع غير الأدب، أمّا قبله فقد تجرّع كل أنواع الخيبات والتخلي والإهمال، وبشاعة الشارع التي عاش في كنفها دامت طويلا حتى اهتدى للكتابة. ولد مع حظ مشروخ، سجن والده، وأمه رمته للشارع فتبنته عائلة فرنسية فقيرة من أجل الحصول على مساعدات شهرية من الدولة، ولم ينل من التربية والتعليم ما يجعله في الصف الأول مع أترابه. حين خرج والده من السجن واحتضنه من جديد بما يكفي أن يجعله سعيدا، عصفت بهما مشاكل أخرى مختلفة جعلت الوالد ينتحر، فعاد للشارع مرة أخرى قبل أن يلتحق في عمر الثامنة عشرة بالجيش، ولكنه لم يستفد من الجيش شيئا سوى رخصة قيادة السيارة كما قال، ترك الجيش بعد أن رفض أن يذهب إلى كرواتيا تحت أي غطاء، فأعاده تمرّده ذاك إلى الشارع مرة أخرى. وجد حبيبة وتمنى أن يبني معها عائلة ولكنّها لم تكن مقتنعة بجدوى الحياة كلها فرحلت انتحارا، وسببت له صدمة أخرى أكثر قوة من غيرها... ستقولون إن الرجل منحوس، والنحس يركب كتفيه منذ ساعة ولادته، فلا تفسير آخر لكل هذا البؤس الذي لاحقه حيثما حلّ. لكن على ما يبدو وبقدرة قادر، الأدب أقوى من النّحس نفسه...! ما إن بدأ الرّجل بالكتابة، حتى غادر النحس كتفيه، وخفت الأثقال التي كسرت كاهله. ثم انغمس في عالمه الافتراضي بحثا عن صديق يسمعه، ولم يكن يعلم أن ذلك الصديق الوهمي الذي عكف للكتابة إليه عن متاعبه سيتجاوب معه وسيخرجه فعلا مما كان فيه، وسيخلع عن المتشرد أسماله الرّثة ويقدمه للجمهور الفرنسي العاشق للأدب باسمه فريدريك دييام، ولن يمر وقت طويل حتى تعتدل حياته وتتعدّل، فيجد الاحترام، والحياة الكريمة والحب. هذا هو الكاتب الذي أنجبته شوارع فرنسا وقد روى حياة الصعلكة والتشرد التي عاشها وكيف أن لا الدولة ولا آلاف الجمعيات الخيرية، ولا أي شخص ساعده على الخروج من متاهة الشارع إلاّ الأدب. وأن قلمه وحده وأوراقه وحكايته الغريبة التي رواها بصدق كانت خلاصَه الحقيقي والنهائي. غير ذلك قدّم الكاتب عشرات الأفكار الذكية للتعايش أعزل تماما وسط غابات الشوارع المرعبة، إذ ليس سهلا أن يجد المرء نفسه في العراء أمام الذئاب البشرية الجائعة. وحكاية "دييام" ليست فريدة من نوعها، فقبله سمعنا بقصة صاحبة "هاري بوتر" وكيف غير الأدب حياتها، وإن تأملنا ربما في حياة عشرات الكتاب عبر الزمن سنكتشف أن الأدب كله عطاء. وإن كان الأدب منح فريدريك دييام الاحترام والمأوى والحب، فإن علم النّفس يختصر علينا علاج مشكلة التشرد والقضاء عليها بتوفير هذه العناصر الثلاثة للمتشرد، ويبدو أنه في بلاد الغرب كما في بلداننا يصعب منح الحب والاحترام للإنسان حين يصبح متشردا، يبقى السؤال الكبير الآن كيف يجعل الأدب صاحبه محبوبا ومحترما؟ والجواب يكمن في كل موهبة يمنحها الله لعبده وعلى العبد أن يمارسها لأنّ فيها خلاصه.