الغاضبون يرحلون بمغادرة مترددة، يعودون غالبًا بمجرد أن يخمد لهب العتب، ويمكثون حتى ولادة نار جديدة، أما الرحيل الناضج، المكتنز بكل شروط الاكتفاء، فممتد حتى اللاعودة.. يتكئ على سرر الزهد، والخذلان. اللوم والتبرير يرتبطان دائمًا بظروف مؤقتة، الصمت والترفع، واختيار مسارات الغياب، هي نتائج حتمية لتراكمات عميقة. تميل الأغلبية للعودة لأسباب مختلفة، لكن الرجوع لا يشبه اللحظات السابقة، يأتي متوجسًا، يصحب معه خطايا المرة الأخيرة، محملاً بوعود أثقل من استطاعته، وفي جيوبه الكثير من المنطق الذي لا يشبه مشاعره ولا توقيته. الذكرى الجميلة تظل كذلك متى ما اختزلت في لحظاتها، محاولة استنساخها تبعثر النسخ الأصلية والأصيلة، وتنتج ذكريات مشوهة، تجبُّ كل ما قبلها، الإيمان بالقدرة على خلق البدائل، من الأشخاص والمشاعر والأشياء، يسهل عملية التخطي والتخلي، ويزرع الهدوء في دواخلنا قبل أي شعور آخر. لا يمكن الهروب مطلقًا من فكرة الاشتياق، لكن هذا لا يعني التسليم أبدًا، لا يقترن بالتراجع أيضًا، وإنما يبقى في سياقاته الخاصة، المنتمية لأوقاته القديمة، بكل ما تحمل من رغبة وجنون وحب، وأشياء عصية على التكرار والمشاركة. تخاف الأكثرية مرحلة البدء الحديث؛ لأنه أشبه بحالة المقامرة، والفوز مرة أخرى يأتي باحتمالات معقدة، كما أن استحالة التشابه التام والمقارنة المستمرة يقلمان من حظوظ الرغبة، وبأس المضي.. أي محاولة ثانية تتطلب إغلاق المحاولة القديمة؛ لأن الارتباك سيكون حاضرًا في كل حين تتداخل فيها الأولويات. أصعب ما يواجه الناس، مع كل تجربة، هو عملية الثقة مجددًا، إعادة الأخطاء قد تكون صحيحة في حالاتها المستحدثة، والأكيد أنها ستظل أخطاء متى كررت نفسها مرات جديدة. لذلك، أسوأ ما يمر بنا هو فقدان الإيمان بالآخر، والجفول المتراكم، والهروب البعيد، والسلام..