بين تغريدةٍ وأخرى على موقع التواصل الاجتماعي تويتر.. يحاول أستاذنا الكبير الدكتور عبدالله الغذامي حشر الشعر بكل تاريخه في نفق الكذب والادّعاء والصناعة.. وله منهجه الثقافي في هذا الذي ارتآه بعد بحثٍ طويل، كذلك بعد أن كان لنا نحن جيل التسعينات كبيرنا الذي علّمنا الشعر، ولست بصدد محاجّته في هذا التوجّه، ولا حتى لومه عليه، بقدر ما سأذهب لوجه آخر ألتقي الشعر فيه بعيدًا عن تسلّطه الأخير عليه..! فالشعر الذي ينكره أستاذنا علينا هو آخر دوائر الجمال التي خرج منها ليرجمه أو يرجمنا لا فرق، بمنجنيق الأنساق حين يجمعنا في تاريخه الطويل والمتجدد، وبقاذفات اللحظة المعاصرة المتمرّدة على جماليات التفكير، ورقصات الخيال، في موقف المنكر له، والجاحد لتاريخه المعرفي والجمالي الطويل، ولا أرى حقيقة في موقفه هذا إلا مصادرة للجمال حين يناضل في وجه هذا القبح الكبير، فلم يكن الصدق والكذب يومًا ميدانًا للشعراء، حين كانت حرفتهم الغواية ومنجزهم جمع الأحلام، وليس من المنطق أن تكون القصيدة ضلالاً وهي التي تجمع الروح بالقلب، والخيال بالواقع، والممكن بالمحال، والحقيقة كما نتنبّأها حينما تجيء.. على مدى العصور ومع اختلاف الثقافات واللغات.. بعض الشعر يا أستاذنا هو "ما يشبه الخبز فينا تمامًا" فلا تمنحنا الجوع بعده ولا تسفّه قوتنا حينما عافته نفسك بعد تاريخٍ طويل معه.. فالشعر فعل تواصلي حسبه أن يهذّب الحضور حين تكون اللغة بشاشة القصيدة، ويبلّغ الشعور صوته في زمن يخرسه تحت حطام مادياته المسعورة، لستُ والله بشيء لأوجّهكَ لما توجّهني إليه دائمًا، لكنني أكبرك وأجلّك عن هذه اللغة الاستخفافية التي تشيعها بين مريديك وقرائك وأنا أولهم كلما جاء الحديث عن شاعر هنا أو آخر هناك! ولعلني سأعترف قبلك أن الشعر اليوم غريب في حاضره، قريب من ذاكرته، لكننا لا نتكئ عليه إلا حجة بغير إرادته، ولا نبحث عنه إلا لنتسلقه إلى رف جديد في مكتبة يومنا التي لا تعبأ به.. ومع كل هذه المواقف المتشنجة تجاهه لست خائفاً عليه ولا مؤبناً له.. ولا حتى متوجساً من نعمته عليّ.. لكنني مشفق على أرواحنا حين يتيتم الحنين بموته.. ويتقابح الجمال بفقده.. لا أخاف عليه من كينونته حين أتساءل ما الذي سيتبقى في كون أرواحنا إن لم يكن الشعر أكرم زائريها وأنبل من يقيم فيها.. قلت دائماً إن الشاعر حين تكون غايته قصيدته سيخلو بها في مختبره الجمالي ليركب ويحلل، يجرب ويجرب ثم يبكي غناء ويحزن تاريخاً ويقرأ غيباً.. فلا يخرج من مختبره أو لنقل من عمره إلا وقد ترك رحلته كلها في ذمة التاريخ، فرفقاً بذلك التاريخ المكتوب بماء الروح دائماً.. يا شيخنا الجليل. د. عبدالله الغذامي